شعار قسم مدونات

دور اللغة في تفجير النزاع السياسي وتغذيته

blogs عراك، صراع، خلاف

إن كان للغة دور هام في تقوية الروابط الاجتماعية وتمتينها، لكونها تسهم في التمكين لتقارب الأفراد وحسن تفاهمهم، ومن ثم تآلفهم الذي يثمر فيما بعد النزوع إلى المشاركة والتعاون فيما بينهم، والانخراط في مشروعات ترتد بآثار طيبة على الحياة الاجتماعية كلها، غير أن هذا الدور الإيجابي الذي تتكفل به اللغة في المجتمع، مشروط بوحدة اللغة المتعامل بها في المجتمع الواحد، فإذا تعددت لغاته انخرطت هذه اللغات في صراع بينها أيها يحكم ويسود، وبذلك يتغير دور اللغة هنا، وتتحول اللغة من أداة للتفاهم والتآلف، إلى أداة للصراع والنزاع، ومن وسيلة للتقارب والتجاذب، إلى وسيلة للتضارب والتكالب.

 

وهذا ما يفسر تركيز القوى الاستعمارية فيما مضى وإلى اليوم، على الاهتمام بإحياء لغة الأقليات في البلاد التي كانت تحتلها ولا يزال لها عليها نفوذ، وذلك لما يترتب عن ذلك من نزوع تلك الأقلية إلى فرض الاعتراف بلغتها على الدولة والضغط عليها لترسيمها، مما يتحول بالصراع اللغوي إلى نزاع سياسي مرير، يعصف باستقرار المجتمع، ويلهيه عن الاشتغال بالقضايا الأهم، التي تسهم في النهوض بالمجتمع، والدفع به نحو المزيد من النمو والتطور والازدهار.

 

الأمر الذي يبقيه في حالة من التخلف والعجز والقصور تحوجه إلى الاعتماد على مساعدة الغير، حتى وإن كانت مشروطة ومهينة، فليس من باب الصدفة إذن أن نرى القوى الإمبريالية كالولايات المتحدة توظف الدفاع عن قضايا الأقليات العرقية والدينية التي توظفها كأوراق ضغط لخدمة مصالحها السياسية والاقتصادية، كما هو الشأن في تركيا وسوريا والعراق. وهذا ما يفسر كذلك ما بذلته فرنسا من جهود جبارة لتأسيس الأكاديمية البربرية لترقية اللغة الأمازيغية والدفع بأمازيغ ليبيا وتونس والمغرب والجزائر، لتشكيل تنظيمات تأخذ على عاتقها تجييش الناس للتحول بقضاياهم من قضايا خاصة إلى قضايا عامة، وما تسخره لهم في سبيل ذلك من وسائل الإعلام للتعريف بقضاياهم وتحويلها من قضايا محلية إلى قضايا دولية.

 

ما تلقاه الأقليات العرقية والدينية في الوطن العربي من دعم وتشجيع على إحياء لغاتها، وابتعاث تقاليدها، يرمي إلى دق أسافين بجسم المجتمع العربي، تساعد على تهيئة الظروف لتقسيمه وتفتيته

وهذا ما يفسر دعم أمريكا لقوات سوريا الديموقراطية، وأكراد كردستان العراق، واستضافة فرنسا لحكومة فرحات مهني الانفصالية، على الرغم مما بينها وبين الجزائر من علاقات سياسية ودبلوماسية واقتصادية، وذلك لأن النزاع السياسي الذي يفرزه الصراع اللغوي داخل المجتمع الواحد، يكاد يكون صراعا أبديا لا يحسم، إلا بتغلب طرف على طرف، أو بتبني نظام فدرالي، أو بالانفصال وتشكيل وطن جديد لأتباع كل لسان.

إن تعايش لسانين في وطن واحد غير ممكن ومستحيل، ذلك أن تسيير الشأن العام يشترط التعامل بلسان واحد، حيث أن التعدد اللغوي يترتب عنه إهدار للمال والوقت والجهد، فلابد لأحد اللسانين أن يفسح المجال للّسان الآخر ليحكم ويسود، فّإذا تعادلت قوة المدافعين عن اللسانين، اضطرهما الحال إلى الرضا بلغة ثالثة تنوب عنهما في تسيير الشأن العام، كما هو عليه الحال في الهند حيث اضطرت السلطة للجوء إلى اللغة الإنجليزية حسما لصراعها اللغوي، وذلك ما تهدف إليه فرنسا في المغرب والجزائر، من النفخ في هذا الصراع اللغوي بين العربية والأمازيغية في بلاد المغرب العربي، الذي كان تحت هيمنتها الاستعمارية فيما مضى، وعز عليها تحرره من ربقتها، للإبقاء على هيمنتها عليه، وذلك بتعويض الهيمنة السياسية، بالهيمنة الثقافية عن طريق فرض لغتها على شعوب هذه المنطقة.

ولا سبيل للإنكار أن ما تلقاه الأقليات العرقية والدينية في الوطن العربي من دعم وتشجيع على إحياء لغاتها، وابتعاث تقاليدها، وتفعيل تراثها المادي والثقافي، يرمي أساسا إلى دق أسافين في جسم المجتمع العربي، تساعد على تهيئة الظروف المناسبة لتفجير صراع فيه، ينتهي بتقسيمه وتفتيته، وهذا ما نراه يحدث في العراق والشام، وما تتجه إليه الأمور في المغرب العربي الكبير. إذن من الضروري جدا أن نحسن التعامل مع هذا الصراع اللغوي في مجتمعنا العربي الشرقي منه والمغاربي، ولا نسمح له بأن يتحول إلى نزاع سياسي، يفضي إلى تغيير النظام السياسي، أو تقسيم الوطن وتمزيقه، ويكرس الهيمنة الأجنبية علينا من جديد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.