شعار قسم مدونات

إنها فانية.. فاعمل للباقية

مدونات - رجل يتفكر يتأمل

ذاك طفل يودع والدته متجها إلى مدرسته، لم ينسى وضع سندويتش في حقيبته كي لا يظل جائعا في فترة الاستراحة، تقبله أمه بشغف وتودعه بعينين محبتين، تظل مراقبة له إلى حين صعوده لحافلة المدرسة ثم تعود لأشغالها، وذاك طفل يئن وجعا والدماء تفور من أجزاء جسمه الصغير إثر قنبلة أو صاروخ أرضي قصف ذات ساعة على منزله الدافئ، يبكي ويصرخ مناديا أمه، لا صوت يسمع غير صوت التفجيرات بالخارج وأصوات انهدام المنازل وصراخ الرجال، ولا شيء يرى غير ذاك الضباب الأبيض الرمادي من ركام الحيطان والبيوت.

هذا طفل يبتسم في أحضان والده يأخذان نفسا بعد حصة لعب لكرة القدم فاز فيها الطفل بأهداف متتالية أوصلها جلها الأب إلى المرمى والطفل كله يقين أن والده لا يجيد صد الركلات الحرة، الأم تطبخ أكلة لذيذة يحبها الاثنان والبيت يجوبه دفء أسري من النوع النادر، وهذا طفل يقشعر جسده الصغير بفعل الجو البارد والسحاب الكثيف الذي يندر بأمطار قريبة، في يده قطعة رغيف جاف لا يعلم في أي عهد صنعت فهو لا يأكل ليستشعر المذاق الحلو، هو فقط يريد البقاء على قيد الحياة، تؤلمه قدماه بسبب الحذاء الممزق الذي يرتديه ووجهه الوسيم تملئه الأوساخ وخربشات سكاكين متنمرة، الشارع بيته ونور النجوم كهربائه، أغطيته ألحفة بالية من قمامة الحي المجاور وملابسه لا يذكر بالضبط من أي قمامة اقتناها لكنه يحب صورة السوبرمان التي على يمين قميصه الشتوي، وطفل ينتشل من تحت الانقاد تأبى الروح أن تفارقه، يبكي حياته المتمسكة به وصيحات هنا وهنا فرحا بإنقاذه، تنفسه بطيء قليلا و الغبار يملئه عن آخره.

ذاك رجل وذاك رجل، تلك امرأة تتباهى بملابسها على صديقاتها وتفتخر بحقيبتها المزورة، الكل يعلم أنها ماركة مزورة لكنهم يجاملونها مقابل مجاملاتها لأشيائهم كذلك وحياتهم تمر على هذا النحو خدمة مقابلة خدمة، مصلحة مقابل مصلحة، وهذه امرأة تحمل حطبا على ظهرها في أعالي الجبال جواربها خضراء اللون وملابسها لم تصنع في عهد الموضة والأزياء، تجاعيد وجهها توحي بعجز وشيك بيد أن عمرها لم يتجاوز الأربعين بعد.

ذلك الطفل الذي بدون مأوى يجابه زغات المطر وصقيع البرد القارص واحتقار من لا رحمة له، أين مفره من مصيره هذا ومن يأخذ بيديه نحو مصير أكثر دفئا وأمنا
ذلك الطفل الذي بدون مأوى يجابه زغات المطر وصقيع البرد القارص واحتقار من لا رحمة له، أين مفره من مصيره هذا ومن يأخذ بيديه نحو مصير أكثر دفئا وأمنا
 

هنا حال وهناك أحوال، من يجري خلف المطامع ومن يجري خلف الفانيات، يحسب الخلد في دنياه وينسى الخلد في آخرته كيف سيكون، بين طاغية يبيد الأطفال والنساء طمعا في أرض فانية و سلطة لاغية وبين قنبلة لا ترحم وصاروخ لا يرى ولا يسمع مناجاة أم وآهة أب وصرخة طفل مكلوم..

أسئل نفسي كثيرا ما إحساس ذاك الإنسان الذي يقتل الأبرياء نهارا وينام ليلا بوجه بريء ونفس منتظم، ألا يصحا الضمير فيه قليلا وينفطر قلبه رحمة بالضعفاء ، ألا تلومه نفسه تلك كما تنهش أعماقنا حين نقوم بذنب صغير، الأشرار هكذا ينامون جميعا وأيديهم ملطخة بالدماء ولا يرف لهم جفن والأبرياء حين يقتلون دفاعا عن أنفسهم تحرم أعينهم النوم إلى الأبد فإن لم تجفاه ألما، تجفاه ظلما وقهرا..

ذلك الطفل الذي بدون مأوى يجابه زغات المطر وصقيع البرد القارص واحتقار من لا رحمة له، أين مفره من مصيره هذا ومن يأخذ بيديه نحو مصير أكثر دفئا وأمنا، أمر سيان إن كنت في بلد تموت فيه برصاصة حية أو قنبلة مدمرة أو في بلد تتمزق فيها شرايينك جوعا وتنكمش ضلوعك بردا و قد تموت قهرا من الاحتقار والنبذ والإهانة، في بلد ينظر فيها البعض لأطفال الشوارع أنهم مجرمون أقزام يجب محاربتهم فليس هناك بأصعب من القنابل البشرية، تلك التي تجثيك قتيلا بدون دم وتنهش أوصالك بكل عدوانية، فتصبح جثة حية تبحث فقط عن مكان تدفن فيه للأبد حيث لا وجود للقنابل ولا وجود للجوع والبرد ولا للطغاة..

إنها فانية فلا تحسب أنك خالد فيها بكل ما حصدت من أموال وعقارات وسيارات فخمة، ستفنى ولن تأخذ معك سوى الجرائم والأخطاء التي تفننت في فعلها، ستأخذ معك بكاء طفل مصاب و صرخات أم ثكلى، ستأخذ أنين طفل جائع ورعشة طفل بردان، ستأخذ معك نظرة توسل من رجل طلب منك رغيفا يابسا فطردته من محلك بكل عدوانية، ستأخذ معك الآلام والآهات التي كنت سببا في لفظها ولن تأخذ معك أي قنبلة تدافع بها عن نفسك ، أو قصرا تختبئ به ولا مال ولا سلطة، فهناك لا حكم الا له عز وجل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.