شعار قسم مدونات

لا ينقص ألحاننا إلا "المايسترو"

blogs المجتمع

منذ يومين وضعت منشورا على صفحتي على الفايسبوك سألت فيها الأصدقاء السؤال التالي: "هل احتياجنا الأكبر اليوم يكمن في تخصصات العلوم الأدبية والإنسانية أم في التخصصات العلمية والتقنية؟"، وقبل أن نأتي إلى عرض الآراء المختلفة حول الموضوع وتحليله بدقة، أود أن أنوه بأنه لا أحد مجبر على الاختيار بين التخصصين في نهاية المطاف، لكن طريقة عرض السؤال توحي بأن الاختيار لازم وهنا يكمن الفخ، فكما جعلت القارئ يتوهم أنه عليه اختيار أحد المجالين، يجعلنا الإعلام نتوهم أنه علينا اختيار طرف معين في كل نقاش يطرح: العربية أم الأمازيغية ؟ التيار الإسلاموي أو العلمانية؟ الهجرة غير الشرعية عبر لوح خشبي مهترئ أو البقاء هنا وتحمل كل هذه الرداءة؟ … وحينما نتمعن في كل هذه الصراعات التي تنهك عقولنا وتأكل من صحتنا النفسية وعافيتنا نجد أنها بلا معنى، ففي الأخير نحن لسنا مضطرين للاختيار فيمكننا أن نختار كلا الاحتمالين معا، ويمكننا البحث عن خيار ثالث نقتنع به، خيار حقيقي غير مفروض علينا، لا يزج بنا وسط الجمهور المنقاد وراء أكاذيب الإعلام وحيله التي لا تنتهي.

لطالما كنت أهرب لخيار التخصصات الأدبية منذ أن كنت صغيرا لأنني كنت فيها شيئا من الحرية التي لم أجدها في الخيار العلمي غير أن هذه الأخيرة في الحقيقة ليست أقل اتساعا وغنى، بل أن الطريقة التدريسية المعتمدة على التلقين هي التي جعلت منها علوما جامدة لا حياة فيها، وبالمقابل لا يمكن لأحد أن يحد لي تفكيري حينما أدرس الأدب والتاريخ و الفلسفة، وبالرغم من أن الاختيار لم يكن سوى مهربا ولم يكن قرارا مبنيا على وعي وإدراك إلا أنني لا زلت متمسكا به لأن نخبة النخبة عادة هي من تدرس علوم النفس والاجتماع والسياسة في الجامعات الغربية بيد أنه في بلادنا يتم توجيه أصحاب أسوأ المعدلات في البكالوريا إلى هذه التخصصات… ، وقد يعترض أحدهم على قولي ويقول: "مجالات العلوم الدقيقة دائما أحسن لأن أصحابها يمكنهم الانتقال من تخصصهم إلى الأدبية منها بسهولة والتمكن منها في حين أن العكس مستحيل تقريبا و خير مثال على ذلك هو المفكر الراحل مالك بن نبي رحمه الله الذي كان مهندسا كهربائيا ومفكرا في نفس الوقت"، و سأجيبه من حيث انتهى فقد أتم مالك بن نبي دراسته التقنية في مرحلة متقدمة من حياته مقارنة باحتكاكه بكتب الفلسفة وعلم النفس والاجتماع والأدب وهذا ما نجده مذكورا في كتابه "مذكرات شاهد للقرن"، وكثيرا ما ننسى أن تصورنا للأدبيين مبني على ما نعرفه عن طلابها الحاليين وروادها وللأسف السواد الأعظم منهم وجد نفسه هناك في تلك الخانة سهوا فقط بسبب سوء التوجيه… لأن معدل البكالوريا لا يكفي لدراسة تخصص أرقى… أو هكذا يظنون.

الأزمة أزمة أفكار لا أشياء، من يدركون أن مجتمعنا مليء بالعقد النفسية والمشاكل الوجودية التي دائما ما نداريها بأقنعة عديدة، وأننا صرنا مجتمعا بلا هوية

في الحقيقة كان المقصود من المنشور أعمق من ذلك بكثير، فقد كنت ألاحظ ردود الأفعال بدقة وأفرق بينها، فمنهم أصحاب الحلول السحرية الارتجالية المبهرة:" الحل في العودة للدين"، كأن سؤالي كان حول سبيل النهضة، وحتى وإن كان كذلك فالجواب أبسط من أن يطرح مع واقع مليء بالتعقيدات المتداخلة اللهم إلا إذا كان الجواب مجرد حقنة مخدر بالنسبة لقائلها، و من الناس من يختار التخصصات العلمية لاعتقاده الجازم بأن المشكلة مشكلة ندرة في الأشياء والوسائل بصفة عامة فيرى في التخصص التقني مزيدا من الصناعة والإنتاج والتكنولوجيا، مزيدا من الأشياء، وبعيدا عن الخلفيات السياسية المتعلقة بندرة الأشياء – فهي عموما مقصودة لكي يتم الحد من المستوى الفكري للرعية بحيث لا يمكنهم التفكير في مشاكل البلد وهم لا يجدون رغيف خبز أو كيس حليب – فإن الندرة لم تكن يوما عائقا، بل إن حسن تسيير الندرة قد يأتي بنتائج غير بعيدة عن حسن تسيير الوفرة على الصعيد العام، فهل انتعش اقتصاد البلاد بعد أن زالت ندرة الموز والبطاطا ؟ وهل ستزول أزمة القطاع الطبي بشراء معدات جديدة؟ لا فغالبا ستتلف في غضون أشهر وستصير بلا فائدة في ظل إهمال وغياب الصيانة والمتابعة، هذا إن لم يتم التلاعب بالصفقة وبيعها واختلاس ثمنها.

من جهة أخرى كنت سعيدا جدا لأنني وجدت من هو على وعي بأن الأزمة أزمة أفكار لا أشياء، من يدركون أن مجتمعنا مليء بالعقد النفسية والمشاكل الوجودية التي دائما ما نداريها بأقنعة عديدة، وأننا صرنا مجتمعا بلا هوية وأن هذه الأخيرة هي العائق الأكبر الذي يقف في وجهنا اليوم… ، ولا يمكن للتقنية والتكنولوجيا علاج هذا ولو جزئيا… هؤلاء هم من غلبوا كفة العلوم الإنسانية، وعلى غير المتوقع جاء رأي آخر يدرك أن الطائرة لن تقلع بجناح واحد، فأصر على أن التعاون والتنسيق بين الإثنين هو الحل، علينا أن نؤمن ونثق ببعضنا البعض ونعمل على كلمة رجل واحد لنصل بالسفينة لبر الأمان، وهذا مستحيل حاليا في حال غياب مشروع جدي شامل يجمع كل الأطراف في جبهة واحدة دون أي تصنيف أو تفريق أو تهميش، وهو مستحيل ما دام كل يغني على ليلاه ويعزف على هواه، ما ينقصنا حقيقة هو قائد الأوركسترا… المايسترو.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.