شعار قسم مدونات

عندما ينشأ الأطفال مع قناة الجزيرة

blogs - aljazeera
كنت في الثامنة من العمر عندما دخلت بيتنا قناة الجزيرة. كطفلة، لم أكن أحبها لأنها كانت سببا في حرماني من مشاهدة أفلام الكرتون عندما كان أبي يريد متابعة نشرة الأخبار. لم يكن نظام بيتنا يسمح بمشاهدة مسلسلات أو برامج غير هادفة. لذلك كانت قناة الجزيرة محطة أبي المفضلة في أغلب الأوقات. كنت أتابعها رغما عني ولكني كنت أنتبه جيدا لما يُعرض. كنت أحفظ أسماء مذيعيها وبرامجها وأوقات بثها عن ظهر قلب. كنت أسعى كثيرا لأفهم أسئلة المذيعين وإجابات الضيوف عنها ولكنها كانت إجابات طويلة ومعقدة بالنسبة لي لدرجة أني كنت أنسى ما السؤال. كان التحدي لدي في كل مرة أحضر فيها نشرة الأخبار أو أحد البرامج، أن أفهم السؤال والجواب. وبعد جهد أصبحت أظن أن الضيوف كانوا لا يجيبون عن الأسئلة بوضوح وعرفت فيما بعد أني لم أكن مخطئة.

 
عندما أوشكت أن أكسب التحدي كانت هناك كلمة تحرمني كل مرة نشوة الفوز وانضمامي إلى عالم الكبار. كانت تُذكر مرة كفضيلة ومرة كسبب للحروب. كانت ككلمة سّر لا تخلو منها مداخلة ولا يستقيم معها معنى واحد. لم أشأ أن أخسر رهاني مع نفسي لذلك سألت أبي "ما معنى ديمقراطية؟". لم أكن أعلم أن تعريفي لها حينها لم يكن خاطئا، فقد كانت فعلا سببا للحروب وفضيلة في نفس الوقت. أما أبي فكانت اجابته أنها تعني "حكم الشعب". كان التعريف أعقد من أن يُفهم عندما يوضع في مداخلات السياسيين الطويلة ولكني قررت أن أجرب ونجحت في النهاية. أصبحت متابعة جيدة للقضايا السياسية. كنت أعلم في سن مبكرة أن أمريكا لا تريد تحرير العراق من صدام حسين ولكنها كانت فقط تحمي مصالح دولة تدعى اسرائيل احتلت فلسطين. أتذكر جيدا حرب الأيام المعدودات عندما اجتاحت أمريكا العراق وكانت تلك الأيام تُحْسَب في ركن الشاشة على قناة الجزيرة. أتذكر جيدا ألسنة اللهب التي تصاعدت من بغداد والمذيع جمال ريان عندما قال" ماذا أقول؟ بغداد تحترق". لقد كانت تحترق وعلِمت أن التاريخ احترق معها.
 

تحجب الأنظمة قناة الجزيرة لخوفها من أن يعدَّل فكر الكبار بعكس ما تشتهي ولكنها لا تعلم أن الجزيرة قد أنشأت صغارا يعرفون قضاياهم كما يعرفون أفلام الكرتون

لم أكن أعلم شيئا عن نسب التصويت في برنامج ستار أكاديمي ولكني كنت أنتبه جيدا لنسب التصويت في برنامج الاتجاه المعاكس. ربما كان لذلك البرنامج فضل علي، فقد علمت من خلاله أن الكاذب يمكن له أن يقنع. كنت أتبنى رأي أحد الضيوف -والذي هو دائما رأي أبي- وأرغب كثيرا لو أنه يفوز في نسب التصويت. كنت أستمع للرأي المعاكس ومع كل مداخلة له ينقبض صدري خوفا من أن صديقي في تلك الحلقة لن يستطيع اجابته بطريقة جيدة. كنت أستمتع كثيرا بقدرتهم على الإقناع وكنت أتمنى لو أني أكتسب يوما تلك المهارة.
 
انتقلت إلى المرحلة الاعدادية. وفي حصة التربية المدنية، طرح الأستاذ سؤالا طرحت مثيله على أبي منذ سنوات " لماذا يعتبر دستور 1959 دستورا ديمقراطيا؟". عم الصمت القسم. أما أنا فأظن أني قد امتلكت الاجابة منذ زمن بعيد فقلت " يعتبر دستور 1959 دستورا ديمقراطيا لأن الشعب ساهم في وضعه". نظر اليّ الأستاذ وطلب مني أن أعيد اجابتي فأعدتها. توجه إلى بقية رفاقي وقال " هل سمعتم ما أسمع؟ لا أصدق أن هذه الاجابة لطفلة لا تبلغ من العمر الا 12 سنة". سعدت كثيرا بشهادته ولا سيما عندما أخبر والدي -الذي كان أستاذا في نفس المدرسة- بإجابتي. لم أكن أعلم حينها أن تلك الكلمة كانت ضربا من الكفر في ذلك الزمن وأني كنت من القلائل الذين كفروا مبكرا.
 
تعلقت أكثر بتلك القناة وأصبحت أشاهدها حبا او رغبة في التميز ربما. كنت أهوى تقارير مراسليها ولغتهم العربية السلسة وتعابيرهم العميقة. كنت أحاول حفظ بعض العبارات لأزج بها في اختبارات الانشاء التي كنت أتميز فيها. أدركت المرحلة الثانوية أين كانت تُغسل العقول وتُنمَّط القناعات. لم أكن – كما كان كثير من رفاقي- فريسة لأستاذة التربية المدنية عندما كانت تحاول إقناعنا بتبني الفكر الشيوعي. كنت أعرف الكثير عن الشيوعية وكنت أفهم ما تحاول في كل مرة تمريره لنا.
 
ألم أخبركم أن لبرنامج الاتجاه المعاكس فضل علي؟ لقد كان خطابها مقنعا جدا ولكني تعلمت أن المقنع لا يعني الصواب. لم تتمكن مني ولكنها تمكنت من الكثيرين من أنجب الطلاب الذين لم يكونوا قد علموا أن الأستاذ يمكن أن يكون على خطأ، فيما علمتُ أن الرئيس يمكن أن يكون على خطأ، وأن خبير الدراسات الاستراتيجية يمكن أن يكون على خطأ.
 
تحجب الأنظمة قناة الجزيرة لخوفها من أن يعدَّل فكر الكبار بعكس ما تشتهي ولكنها لا تعلم أن الجزيرة قد أنشأت صغارا يعرفون قضاياهم كما يعرفون أفلام الكرتون. لم تعلم تلك الأنظمة أن من تعلم التفكير والاستماع للرأي والرأي الاخر لن تستطيع أن تُجرّعه باطلا ولو غلفته حكمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.