شعار قسم مدونات

"شعب عايف التنكة ".. مأساتنا بأمثالنا

blogs - syria Revo
لا أدري كيف وما هي قصة المثل الشعبي السوري الشهير"عايف التنكة"؟ لكن للعلم لعل السوريين هم الشعب الوحيد في العالم الذي يعتمد "التنكة" كوحدة قياس، ابتداء من تنكة زيت الزيتون وتنكة المازوت وتنكة البرغل وانتهاء بتنكة الفقر والبؤس الذي يعيشه. فإذا ما سألت كيف حال فلان وقالوا لك "عايف التنكة" فاعلم أن الحالة التي وصل إليها من البؤس والفقر، دفعته إلى أن يترك التنكة ويغادر، نتيجة عظيم همه وغمه، فخط الفقر والبؤس عند السوريين هو "التنكة" والتي هي بدون أدنى شك دون خط الفقر العالمي، فآخر أحلام المواطن السوري أن يكون في بيته تنكة ماء لكي يشرب منها وتنكة طحين ليؤمن الخبز لأهله، وتنكة برغل لكي يطبخ منها، وتنكة زيت زيتون لكي يغمس بها لقمة خبزه الجاف، وتنكة مازوت لعله يشعل بها مدفأة بيته ويدفئ أهله وعياله من برد الشتاء.

 
من مضاعفات التنكة البرميل، فالبرميل الواحد يساوي عشر تنكات، وبما أن البرميل كان أكبر من حجم أحلام المواطن السوري (المعتّر)، فذكر البرميل شبه نادر في قاموس الشارع السوري ما قبل الثورة، بالمناسبة (المعتّر) هو الفقير القليل الحظ الذي يعمل ويعمل ولا يجني إلا الشوك والتعب في نهاية الموسم. لكن النظام السوري المجرم والذي حرم الشعب السوري من أدنى أحلام العيش، وقد جعل التنكة المليئة بالمازوت أو الزيت أو البرغل أو الطحين هي أحلام بعيدة المنال، إلا انه ومع بداية الثورة لم يتوانَ عن إمطار سماء سوريا بالبراميل صيف شتاء، ليل نهار، وعلى مدار سبع سنوات دون كلل أو ملل، براميل طافحة بالحقد والبارود، فأصبح الشعب السوري من أغنى شعوب العالم بالبراميل المتفجرة.
 

الشعب السوري يحتاج إلى (فت خبز كثير) حتى يتعلم، لكن كيف ومن أين يتعلم؟، والخبز بالأساس مفقود، كيف "يفت" كثيراً من الخبز وهو بالأساس جوعان؟

كان الشعب السوري يقول دائماً (للحيطان آذان) من أجل ذلك كان يتحاشى حتى أن يتكلم مع نفسه في أي إشارة همز أو لمز تجاه نظام الأسد، فللحيطان آذان، وآذان المخابرات لا تفوتها فائتة، وبالتالي فإن مصيرك (بتروح على بيت خالتك)، و(ما بتعود بتشوف الضو بعمرك) لكن بنفس الوقت (بتشوف نجوم الظهر)، يعني أن مصيرك سيكون في الزنازين الأسدية ما تحت الأرض، وستقضي ما تبقى من عمرك داخل أربع حيطان وسقف لا تتسع لجسدك النحيل بعد أن يحولوه إلى شبح متقزم، فالحيطان التي كنت تمشي بسترها فوق الارض هي التي خانتك، فهي التي سمعت بآذانها ما كانت تحدثك به نفسك، وهي التي رفعت تقريراً سرياً للمخابرات، فربما غاب عن ذهنك أنها تملك موهبة خاصة في فن الكتابة (فخطها ناعم جداً).
 
لكن لماذا (تروح على بيت خالتك) بالتحديد؟ فبيت الخالة ربما يكون هو المكان الأكثر حناناً والأكثر كرماً على الإنسان، من أجل ذلك اختاره السوريون للتعبير بشكل "ملغوز" مداراة لآذان الحيطان، وبطريقة معكوسة للدلالة على مدى التوحش في أقبية الاستخبارات السورية، فكل شيء مفقوداً هناك، باستثناء الضرب والإهانة والتعذيب فهو (على أبو موزة)، مع أن الموز كان نادراً في حياة السوري، ولا يلوكه لسانه إلا عندما يتحدث بذلك المثل للدلالة على الكثرة المفرطة.

 

للحيطان قصة أخرى مع الشعب السوري، فكان السوري يقول دائما (عم نمشي الحيط الحيط ونقول يا رب السترة) في إشارة إلى الحيادية السلبية والابتعاد عن الناس تجنباً للشكوك والشرور، والتي تدفع به للجوء إلى ظل الحيطان، من أجل ذلك تراه يمشي دائما في ظلها بعيداً عن منتصف الطريق والأخرين، وعلى مبدأ (ابعد عن الشر وغني له). لكن ما بعد الثورة لم يبق في الوطن اي حائط إلا وهدمه نظام الأسد وجعل الشعب السوري عاريا بلا أي ستر أمام العالم أجمع .
   undefined

 

كان الشعب السوري يظن نفسه أصبح شعب (مفتِّح بالمازوت)، وذهب إلى الحائط الذي له آذان والذي كان يمشي بجانبه ويقول "يا رب السترة"، وكتب عليه (إجاك الدور يا دكتور)، وثارت ثائرة الشعب (العايف التنكة) وصرخ بأعالي صوته (الموت ولا المذلة) لكن لم يكن يعلم هذا الشعب المسكين أن المازوت بالأساس كله مغشوش بالماء، فالمازوت الحقيقي و(النفط كله كان في جيوب وأيدي أمينة)، وبراميل المازوت التي بين يديه كلها مغشوشة بالماء، صحيح أن تجربته بالغوص في برميل من المازوت وهو مفتح العينين قد نجحت، لكن الحقيقة التي غابت عن عينيه أن طبقة المازوت لا تعدو عدة أصابع طافحة على السطح وما دون ذلك كان كله ماء.

 

فالشعب السوري يحتاج إلى (فت خبز كثير) حتى يتعلم، لكن كيف ومن أين يتعلم؟، والخبز بالأساس مفقود، كيف "يفت" كثيراً من الخبز وهو بالأساس جوعان؟، والأهم من ذلك ماذا يفعل شعب "عايف التنكة" أمام نظام موغل بالاستخباراتية وكل أجهزة استخبارات العالم تعمل في خدمته. ربما أن الكثير من الناس لا يعرف أن "تنكة" المازوت كان لها دوراً كبيراً في تسريع اشتعال الثورة السورية، طبعاً أرجو أن لا يذهب فكركم بعيدا وتظنوا أن نظام الاسد قد أغرق سوريا بالمازوت والنفط، ومن ثم اشتعلت.

 

المازوت بالنسبة للسوريين عصب الحياة، فعلى المازوت يصنع السوريون خبزهم، وعلى المازوت يدفئون بيوتهم، وعلى المازوت يسقون محاصيلهم الزراعية وعلى المازوت تمشي معظم وسائل النقل في سوريا، وعندما قام النظام السوري برفع قيمة المازوت من 7 ليرات الى 24 ليرة دفعة واحدة، كانت طامة كبرى بالنسبة لشعب ـ بالأساس معظمه- "عايف التنكة"، وهذا ما دفع الشعب "العايف التنكة" أن يحمل تنكته الفارغة ويدق عليها وينادي بأعلى صوته (حرية للأبد غصب عنك يا أسد).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.