شعار قسم مدونات

الصداقة بين الجنسين.. في ميزان النقل والعقل

مدونات - رجل وامرأة
إن أصعب شعور يمر به اﻹنسان هو أن يكون لديه خبر موغل في السعادة والسرور بالنسبة له، ولا يرى صديقا يشاركه الفرحة من صميم خاطره، أو أن يكون يحتاج لمن يستشيره في أمر يترتب على الخطأ فيه -مستقبلا- وابل من الحسرات والهموم وحتى الدموع أحيانا.. ولا يلقى من هو أهل ﻷن يستشيره في أمر مازال طي الكتمان.. وغير ذلك من الحالات.

 
من هنا اكتسبت الصداقة رونقها ومحورتيها في حياتنا كبشر، وصرنا نكره العزلة الموحشة التي توقف دوامة الحياة وتكدر صفوها، ونعتز بصداقة اﻷصدقاء اﻷوفياء ونعتبرها منحة من المولى جل جلاله يكرم بها من يشاء من عباده، بيد أن الصداقة نظرا لمحوريتها في الحياة ورفع التكلف فيها وعمق ما تصل إليه وما ينتج عنها من تقارب وتآخ ومحبة بين طرفيها، لم تخل من قيود وشروط -مجحفة أحيانا- لا سبيل لرفضها أو نقاشها أو الطعن فيها في مجتمعاتنا العربية اﻹسلامية، ﻷن مصدرها -حسب البعض- شرعي وثقافي، فضلا عن كونها -في نظرهم- تحمي القيم والحياء واﻷعراض والذوق العام وتحارب إشاعة الفاحشة وانتشار الرذيلة…وعلى رأس تلك الشروط يأتي شرط يمنع إقامة الصداقة بين الذكور واﻹناث، حماية لما سبقت اﻹشارة إليه، وقد يكون ذلك منطقيا خصوصا إذا ما اعتبرنا أن المرأة مجرد بضاعة يجب لمها بعيدا عن العيون، وتلك نظرة ظلت للأسف سائدة في عصور الانحطاط التي مرت بها المجتمعات العربية، والحقيقة أن المرأة: "طاقة هائلة للدفع نحو معالم الطًهر والعفة والتعاون على الخير في العلاقات البشرية".
 
وبالرجوع إلى الشريعة الاسلامية -ولست خير من يتحدث عنها، إلا أنني سأنقل آراء بعض العلماء- التي يستمد منها القائلون بمنع قيام تلك العلاقة أقوالهم، نجد أنهم لم يعتمدوا في القول بالمنع على نص صريح من القرءان أو السنة، وإنما اعتمدوا على مبدأ من مبادئ الشريعة الإسلامية -أنكره بعض العلماء- يسمى: "سد الذرائع" ويعرف بأنه: منع الوسائل والطرق التي ظاهرها اﻹباحة لكنها تفضي إلى الممنوع، وقد أخذ بهذا المبدأ جمهور العلماء وحرموا به ما يفضي إلى الحرام غالبا، أما ما فيه تردد أو تساوى فيه الاحتمالان فقد اختلفوا في اﻷخذ بمبدأ سد الذرائع فيه، ومن هنا كان علينا البحث في اﻹجابة عن السؤال التالي: هل العلاقة بين الجنسين تفضي غالبا إلى الحرام فتحرم الصداقة بين الجنسين عند الجمهور، أم يتساوى فيها الاحتمالان أو فيها تردد، فتكون محل خلاف…؟

 

علينا أن ننظر للمرأة كإنسان قبل أن تكون أنثا، لها الحق في صداقة من تختار صداقته وفقا لضوابط الشرع والدين، ولاشك أنها قادرة على تكوين صداقة قائمة على التعاون على البر والتقوى

واﻹجابة على هذا السؤال تقتضي منا أن ننظر لعلاقة الجنسين من المؤمنين في أفعالهم وأقوالهم، لا أن ننظر لعلاقة بعض من لم يكترثوا بالدين ولا بتعاليمه، حتى لانظلم أصحاب النوايا الحسنة، ونحرم ما حرم الله، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع اجتماع الرجال بالنساء بإطلاق، وإنما منع الخلوة وكل اجتماع فيه إغراء ومدعاة للفتنة، "فلا عزل بين الرجال والنساء في صلاة أو في مجلس علم أو سوق أو ساحة جهاد أو مجلس تشاور في أمور المسلمين، فللمرأة أن تستقبل ضيوف الأسرة وتحدثهم وتخدم ضيوف زوجها وكل ذلك في إطار آداب الإسلام وتعاليمه". -انظر كتاب: المرأة بين القرآن وواقع المسلمين، الغنوشي-.
 
كما أن التراث اﻷدبي لبعض المجتمعات اﻹسلامية ورد فيه ذكر أكثر من علاقة بين الجنسين -مع احترام للقيم ولمبادئ الشرع- في محيط أقل ما يوصف به أنه محافظ إن لم أقل "صوفي زاهد في أمور الدنيا بعيد كل البعد من المجون واتباع خطوات الشيطان" ومن ذلك التراث قطعة شعرية لأحد اﻷدباء الموريتانيين، يقول فيها بأن صديقته تعلم أن الصداقة القائمة بينهما لن تأكلهما النار بسببها لاحترامها للشريعة الاسلامية، ولن تأكل الناس عرضيهما بها لاحترامها للذوق العام، والقطعة بالشعر المحلي وهي:
يعرف كاع العند الاخبار – عني بغيل ماه الباس
ما تحرك بيه الجلد النار – أولا توكل بيه العرض الناس.
 
كما نجد في شعر أغلب الشعراء الموريتانيين -وهم"غالبا" أبناء بئة صوفية معروفة بالورع والامتثال للأوامر واجتناب النواهي- يلوحون في أكثر من قطعة شعرية بقيام علاقة صداقة بينهم مع الجنس اﻵخر، وفقا لضوابط الشرع وقيمه لاشك.

  undefined

 

أما في عصرنا الحديث فقد شوه كل المعاني وأصبح المجون حرية والسذاجة صفاء والوقاحة حبا.. ونسب لهذا الدين -الذي ميز بين الرشد والغي- كثيرا مما لم يأت به، اﻷمر الذي دفع بعضنا للقول بأن "العلاقة بين الجنسين" مجرد سلم ﻹشاعة الفاحشة والرذيلة، وأن العقل يمنعها قبل الشرع، وهو ما أكده بعض الشباب والشابات العرب في دراسات تتعلق بالموضوع، إلا أنني -وقد أكون مخطئا- أرى أن أبناء المجتمعات العربية يستمدون مواقفهم في كل قضية تتعلق بالمرأة من تقاليد اجتماعية وثقافية تعود إلى عصر التصور البدائي للمرأة، والنظر إليها بصفتها أنثى قبل أن تكون إنسانا!!، فالمتمعن في قصص مجالس العرب البداة القدامى يدرك أنها كانت ميدانا لشرب الخمر ولعب الميسر.. وعليه لامكان للنساء في تلك المجالس، واستمدينا فكرة منع العلاقة بين الجنسين من ذلك، حتى أن العرب قديما -للأسف- كانوا يعتبرون المرأة عار يجب التخلص منه!! وهي أفكار خلصهم الاسلام من أكثرها وبقي بعضها عالقا في أذهان البعض، ويتضح ذلك بشكل أكبر من خلال الرجوع إلى عادات تلك البلدان ونظرة بعض من أهلها للمرأة، وموقفهم من تعليمها وتوليها للمناصب العامة!!
 
لهذا -أعتقد- أن علينا أن ننظر للمرأة كإنسان قبل أن تكون أنثا، لها الحق في صداقة من تختار صداقته وفقا لضوابط الشرع والدين، ولاشك أنها قادرة على تكوين صداقة قائمة على التعاون على البر والتقوى ونبذ اﻹثم والظلم والرذيلة والعدوان..، وأن لا نسقط ما يقوم به بعض من لا يكترثون بالدين ولا بتعاليمه على آخرين لهم مبادئ استلهموها من دينهم الحنيف وقيم إنسانية..، وأن نعلم علم اليقين أن تضييقنا -نحن المسلمين- على المرأة وعزلها، يسيء لديننا أكثر مما يخدمه، وقد قال ابن تيمية في كتابه -مجموع الفتاوى- أن: "ماكان منهيا عنه سدا للذريعة يباح ﻷجل المصلحة الراجحة"، وقد قال القرافي أيضا: "أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها ويكره ويندب ويباح"، وأكثر من ذلك كله فتطهير العلاقات بين الجنسين وإخضاعها لمبادئ الشرع والقيم اﻹسلامية المثلى لن يكون "بتكثيف الحُجب وتحويل البيوت إلى سجون للنساء، وإنما بالتوعية وبثورة تربوية على مستوى الأسرة تُحرر المرأة من رواسب الانحطاط وتفتح أمامها سُبل تصريف طاقاتها الهائلة"، كما يقول راشد الغنوشي.

رجاء لا تتسرعوا!! هذه ليست فتوى، وإنما هي إثارة الموضوع للنقاش، وللعلماء والفقهاء الكلمة الفصل..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.