شعار قسم مدونات

مطلب التحول الديمقراطي والميلاد العسير

blogs حراك الريف

لا يحتاج العالم العربي في أزمته الراهنة التي يمر بها اليوم، والتي تخنق جميع شعوبه وأفراده، إلى شيء كما يحتاج إلى الحرية والديمقراطية. فالديمقراطية هي المطلب الأهم الذي ترفعه النخبة في العالم العربي بمختلف توجهاتها الفكرية وتموقعاتها السياسية، وهو المطمح الذي تتوق له الشعوب العربية التي عانت ولا زالت تعاني من جحيم الاستبداد في كافة ميادين الحياة.

   

بيد أننا نخطئ في فهمنا للديمقراطية وفي طريق بنائها حينما نتصورها مجرد إزالة نظام وإقامة آخر مكانه، أي أننا نخطئ حين نناضل ضد "الحكم القائم وليس من أجل حل مشكلة الحكم" -وفق تعبير الفيلسوف الراحل محمد عابد الجابري- ونركز على محاربة الاستبداد في مستواه الأعلى مجسدا في الحكم والدولة، ونُغْفِل عن محاربته في مستوياته الدنيا، أي الثقافة الاستبدادية التي تعشش في أذهان أفراد الأمة، وعلى مستوى الأحزاب والجماعات والهيئات والمنظمات، وما تمارسه وتكرسه من استبداد؛ سواء في ممارساتها الداخلية ضد أفرادها، وفي بناء هياكلها ومواقفها، أو في منطق الإقصاء وعقلية الهيمنة والاستحواذ على كل شيء، الذي تتعامل بها عند ما تكون في شراكة مع غيرها.

  

إن الديمقراطية ثقافة وسلوك، قبل أن تكون أي شيء آخر، والطريق إلى بنائها يحتاج منا أولا أن نبني الديمقراطية في نفوسنا، وأن نرسخها بيننا كثقافة وكسلوك، أي نمنح الناس حق الحرية والتعبير ونجرد أنفسنا من الحق الذي نمنحه لها في الوصاية على الآخرين. إن ما تحتاجه التيارات الوطنية؛ الفكرية والسياسية بمختلف توجهاتها وخلفياتها، هو أن تغرس في مناضليها ثقافة الديمقراطية والتعايش والتشارك بدل سلوك الشحناء والبغضاء والإقصاء والإلغاء بسبب خلافات فكرية أو سياسية تافهة.

أننا مطالبون أن نعمل بالتوازي مع كفاحنا ضد الاستبداد السياسي على توفير الجو الملائم للديمقراطية، وذلك بالعمل على تكريسها كثقافة وكسلوك في المجتمع وبناء أعرافها ومؤسساتها

فغياب الثقافة الديمقراطية في أدبيات هذه الحركات، هو الذي جعلنا كلما اقتربنا في دولة من دول العالم العربي من إنجاز التحول الديمقراطي على مستوى الحكم تظهر فينا الحساسيات والحسابات الاديولوجية ومنطق الهيمنة والإقصاء والإلغاء، والصراعات الصغيرة التافهة، فينتقض الغزل بسبب الأنانية والحسابات الضيقة ونعود أدراجنا للوراء.

 

إن أي حزب سياسي لا يقيم الديمقراطية داخل أطره، ولا يتعامل مع شركائه في الوطن بالاحترام وبالمنطق الديمقراطي، لا يتوقع منه إذا وصل للحكم أو إلى أي موقع إداري مهم في الدولة أن يتعامل مع الناس بديمقراطية وعقلانية، بل الغالب أنه سيتعامل معهم بذات المنطق وذات العقلية، الاقصائية التي كان يتعامل معهم بها وهو في موقع المعارضة. وهذا هو مكمن الخلل وجوهر الإشكال الذي يعيق التحول الديمقراطي، ويجعل النخب والأحزاب السياسية لا تسلم لمن يصل للحكم عبر انتخاب ديمقراطي وتضع أمامه العراقيل من أجل شله وإعاقته عن العمل. بدون شك بعض هذا السلوك للاديمقراطي يرجع إلى العقلية اللاديمقراطية التي ترسخت في أذهان النخب والأحزاب السياسية، ولكن بعضه يكون دافعه هو طريقة التعاطي التي يتعامل بها معهم من تنتخبه الجماهير وتأتي به صناديق الفرز الانتخابي إلى الحكم.
 
إن نجاح النخب والأحزاب السياسية في تكريس مبادئ التعايش وتدبير الخلاف بالأساليب الديمقراطية سيوفر الأرضية للانتقال الديمقراطي على مستوى الحكم، وفشلها في تكريس الديمقراطية في دوائرها الخاصة سينعكس أيضا بشكل سلبي على مطلب الانتقال الديمقراطي على مستوى الحكم والدولة.
 
ومن الملاحظات المهمة -والجدير بنا استحضارها هنا- ما قرره رائد الفكر الحضاري وفلسفة النهضة الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله، بعد تحليل عميق لتاريخ التحولات الديمقراطية في المجتمعات الغربية، من أن الديمقراطية ليست "في أساسها عملية تسليم سلطات تقع بين طرفين معينين، بين ملك وشعب مثلا، بل هي تكوين شعور وانفعالات ومقاييس ذاتية واجتماعية، تشكل في مجموعها الأسس التي تقوم عليها الديمقراطية في ضمير شعب، قبل أن ينص عليها أي دستور، والدستور ما هو غالبا إلا النتيجة الشكلية للمشروع الديمقراطي عند ما يصبح واقعا سياسيا يدل عليه نص توحي به عادات وتقاليد، ويمليه شعور في ظروف معينة"(القضايا الكبرى، ص: 144).

ليس معنى هذا أننا مطالبون بالكف عن النضال ضد الاستبداد والعمل على إنجاز التحول الديمقراطي على مستوى الحكم حتى نوفر الجو لإقامة الديمقراطية، وفق النظرية التي تطرحها التيارات القومية والتي ترى أن "العالم العربي لم ينضج بعد للديمقراطية"! وإنما معناه أننا مطالبون أن نعمل بالتوازي مع كفاحنا ضد الاستبداد السياسي على توفير الجو الملائم للديمقراطية، وذلك بالعمل على تكريسها كثقافة وكسلوك في المجتمع وبناء أعرافها ومؤسساتها، حتى إذا أتيحت فرصة تحول ديمقراطي على مستوى الحكم والدولة تكون الأحزاب والقوى السياسية في مستوى التحول وقادرة بثقافتها وسلوكها الديمقراطي أن تحافظ على المكتسب وتدفع به إلى الأمام وتتجنب كل ما يمكن أن يؤدي به إلى انزلاقات قد تعيدنا إلى الوراء.. إلى عهد الاستبداد، وتحكم النخب الفاسدة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.