شعار قسم مدونات

التجربة الصومالية.. الدولة والمجتمع (٢)

blogs الصومال

الهويات الفرعية وانهيار الهوية القومية:

"هي متخيلة لأن أفراد أي أمة بما فيها أصغر الأمم لن يمكنهم قط أن يعرفوا معظمهم نظرائهم أو أن يلتقوا أو حتى أن يسمعوا بهم مع صورة تشاركهم تعيش حية في ذهن كل واحد منهم"

– بندكت أندرسون، الجماعات المتخيلة.. تأملات في أصل القومية وانتشارها.

تعتبر التجربة الصومالية مهمة في رصد وتتبع ظهور ونشأة الهويات الفرعية التي تنازع الهوية المتخيلة، فعندما تنهار الدولة فإن الهوية القومية تدخل في حالة تفكك مما يفسح المجال لظهور هويات فرعية تحاول أن تبرز نفسها بعدما فشلت الهوية الكلية للمجتمع. وهذه الهويات تشكل نفسها في داخل الهوية الكلية لكنها تحاول أن تخرج من السياق السياسي والاجتماعي التي يسبق نشأتها مستخدمة الانقسامات الاجتماعية.

والهويات الفرعية يغلبها الطابع السياسي ويحاول أن يفرض نفسه كفاعل سياسي ليجد مكسبا سياسيا انفصاليا مثل صوماللاند أو اتحاديا مثل بونت لاندا، وكذلك تتوسع الهويات الفرعية بتوسع الفيدرالية، وكل ذلك نتيجة فشل الهوية السياسية المتخيلة سابقا "هوية الصومال الكبير"!

من المعروف أن الدولة الحديثة تشكل هوية كلية متخلية حيث وضعت مناصب تذكارية تمجيدا لبعض الأبطال وإهمال لبعضهم، وصناعة الزي الرسمي، وتشكيل ثقافة وفن يمثل هوية الأمة، ويبدو أن الحكومة سياد برى العسكرية هي الوحيدة التي نجحت في صياغة الهوية الصومالية بشكل كبير. وعلى سبيل المثال أن اللغة الصومالية بلهجتها (محاتري) شكلت الهوية الثقافية الصومالية، وكذلك اعتماد الثقافة الرعوية، افقرت التاريخ الصومالي الغنى عن الثقافات المتعددة، وبالتالي لم يتم استثمار هذه الثقافات الفرعية الغنية والمتحضرة جدا مثل البنادريين والبانتو وغيرهم من الجماعات الثقافية.

وعموما القومية المتخيلة هي هوية تشكلها الدولة القومية وهي هوية سياسية تنتهي أو تتراجع بتراجع مشروع السياسية القومية للدولة، ولذلك فان أصل مشروع القومية الصومالية كانت متوترة جدا مند تأسيس الجمهورية، مثلا من هو الصومالي؟ ومن تمثل الجمهورية الصومالية؟ وما هي مقومات القومية الصومالية؟ 

التضامن الميكانيكي الذي اشتهر به المجتمع الصومالي، ساعدها في إدارة ذاتها دون تنظيم سياسي ولا خدمات تقدمها الحكومة

الالتباس الرئيسي هو الخلط بين القومية المتخيلة السياسية والقومية الإثنية القائمة على القرابة او اللغة، مما يعني ان الصومالي الذي ينطق باللغة والذي ينتمي إلى القبائل الصومالية ويعيش تحت سلطة اجنبية مثل كينيا او إثيوبيا، هل تمثله الجمهورية الصومالية الحديثة؟ ام انه أجنبي يعيش خارج نطاق الجمهورية؟ وبالتالي هل يحق له ان يأخذ الجنسية الجمهورية الصومالية؟ 

كل هذا الالتباس والتوتر هي نتيجة الدولة الحديثة والقائمة على الحدود السياسي الذي وضعه الاستعمار، فان منطق الدولة الحديثة ان الجنسية الصومالية تقدمها الدولة وليست مكتسبة حسب الانتماء الاثني ولا القبلي. وبالتالي فان امام الحكومة الصومالية والنخب المثقفة الصومالية هذه المعضلة والتي سيكون لها شان كبير خلال السنوات القادمة. 

الحروب الأهلية والتنظيم الذاتي:

"في الحروب الأهلية قتال متواصل يعتمد على المظالم التي تتغير إلى الأبد"

– نور الدين فارح.

إن القضايا المهمة والمثيرة التي تثري العلوم الاجتماعية هي كيف أدار المجتمع الصومالي نفسه بعد انهيار الحكومة الصومالية يناير ١٩٩١؟ يقع في خاطرنا في الوهلة الأولى ذلك التضامن الميكانيكي الذي اشتهر به المجتمع الصومالي، الذي ساعدها في إدارة ذاتها دون تنظيم سياسي ولا خدمات تقدمها الحكومة، وبالتالي استطاع المجتمع الصومالي أن يستثمر ثقافته الرعوية لترتيب الحالة الاجتماعية والاقتصادية التي خلفها الحروب الأهلية من الفقر والكوارث مثل المجاعات والتصحر والجفاف، لذلك أصبح نسيج العشيرة النسيج الوحيد الذي بقى مهما لإدارة الوضع والخروج من هذه المشكلة، فأصبح رابط العشيرة منقذا لألاف الصوماليين من الموت.

 

وعندما تعطلت الحياة الاقتصادية ارسلت بعض الأسر أفرادهم إلى الخارج للعمل حتى يتكفلوا أسرهم الموجودة في الداخل، ومن هناك أخذت الحوالات أهميتها باعتبارها أهم مؤسسة اقتصادية صنعها المجتمع الصومالي أثناء الحروب الأهلية وباتت المصدر الاقتصادي الأول للمجتمع الصومالي.

ومن جانب أخر استطاع بعض النخب الصومالية صد بعض الخدمات التي كانت تقدمها الحكومة مثل التعليم والصحة، رغم ضعفها إذ أنها اصبحت تجربة ناجحة ومنها خرجت مؤسسات تعليمية منها جامعة مقديشو، ولا نبالغ إن قلنا أن المجتمع الصومالي رغم المعاناة التي كادت ان تمحيه من التاريخ الا انه قاوم ببسالة وعمل معجزات ابقته على قيد الحياة، وأنا أعتقد أن الفضل يعود إلى التركيبة الاجتماعية للصوماليين إذ إنها تركيبة تقليدية يسودها التضامن والتكافل، ولا سيما أن المجتمع لم يتأثر بشكل كبير قيم الرأسمالية والفردية التي تضعف معاني التضامن الاجتماعي، وكذلك تضعف دور الاسرة والقيم الجماعية.

بناء الدولة أو إعادة ترميمها.. مسيرة بحث الدولة:

"في معظم الحالات، نجحت عمليات بناء الدولة والإصلاح المؤسساتي عندما استطاع المجتمع توليد طلب محلي ملح على المؤسسات ثم أوجدها بالكامل، أما عن طريق استيرادها من الخارج أو بتكييف النماذج الأجنبية ومواءمتها مع الشروط المحلية"

–  فرنسيس فوكوياما/ بناء الدولة.



لا أفضل تسمية عودة الصومال او اعادة دولة الصومال، لذلك لأنني أفضل انطلاقة جديدة تتجاوز اخفاقات الماضي وأيضا نسيان عهد الاستبداد، ذلك العهد الذي خلق الوعي السياسي الصومالي والتي أخفق بشكل كبير، وجعلنا نعاني حروبا اهلية طوال عقود. انهارت المؤسسات الحكومية في يناير ١٩٩١ واستولت الميليشيات العسكرية مدينة مقديشو، ولكن للأسف لم تتمكن تلك المليشيات أن تعيد النظام وتضبط الامن وتسد فراغ الحكومة، بل انشغلت بالتصفيات القائمة على أسس عشائرية والدخول في صراعات قبلية دامية دمرت البلاد بشكل كبير.

توضح التجربة الصومالية أن مسالة الدولة ليست إلا توازنات داخلية ولابد من تنظيم ينطلق من هذا التوازن، ولا سيما مسألة القبيلة
توضح التجربة الصومالية أن مسالة الدولة ليست إلا توازنات داخلية ولابد من تنظيم ينطلق من هذا التوازن، ولا سيما مسألة القبيلة
 

إن أهم مشكلة واجهة بناء الدولة آنذاك هو تفاقم المشاكل العالمية مثل سقوط الاتحاد السوفيتي وانهيار جمهوريات أوروبا الشرقية وحرب الخليج والصراع الصربي وكلها هذه الحوادث الضخمة اشغلت العالم عن مسالة بناء الدولة في الصومال، ولهذا لم يكن جهود المجتمع الدولي كافيا لإعادة النظام في الصومال وانقاذ ما تبقى من مؤسسات الدولة دون السقوط الكلي والذي حصل اخيرا بعد عام من انهيار الدولة ١٩٩٢.

ومنذ ذلك الوقت أطلق المجتمع الدولي صيحات انسانية ضعيفة بالمقارنة ما كان يتطلب به الواقع الصومالي من جهود مكثفة لضغط القوى المتصارعة واعادة التوازن. وللأسف لم يستوعب المجتمع الدولي اهمية التوازن السياسي الصومالي لهذا فشل مشروع اعادة الامل الذي أطلقته الامم المتحدة، والواضح ان المجتمع الدولي لم يكن صارما تجاه الصومال، الا بعد ان تفاقمت المشكلة الصومالية وظهر مشاكل متفرعة خطيرة من الإرهاب والقراصنة والنزوح، وكل هذه المشاكل باتت تهدد مصالح الدولة المجاورة، والدولة الغربية على سواء. على هذا الأساس الخوف من تفاقم المشاكل وعدم التحول الدول المنهارة إلى بؤرة للإرهابيين اهتمت المؤسسات الدولية مشروع بناء الدولة.

عموما أدرك المجتمع الدولي بالتعاون مع بعض النخب الصومالية في اجتماع عقد في أديس ابابا بوضع معادلة سياسية تعيد التوازن السياسي أربعة ونصف، وهي معادلة سياسية تحاول أن تضع حدا على الفوضى العارمة ورساء فمنذ ذلك اليوم بدأت الحكومات الانتقالية من عبد القاسم صلاد حسن إلى أخر رئيس انتقالي شريف شيخ احمد. 

بعد جهود تراكمية أنهت الصومال المرحلة الانتقالية عام ٢٠١٢ وانطوت صفحة الحكومات الانتقالية التي كانت تعمل بمنطق حالة الاستثنائية، رغم أن هذه الحالة لا زالت حاضرة بشكل كبير، لكننا تجاوزنا بشكل ما السياسات الانتقالية من رئاسة حسن شيخ وصولا إلى سيد محمد عبد الله فرماجو.

توضح التجربة الصومالية أن مسالة الدولة ليست إلا توازنات داخلية ولا بدَّ من تنظيم ينطلق من هذا التوازن، ولا سيما مسالة القبيلة التي تهدد استقلالية كيان الدولة الصومالية، والتوزيعات السياسية القائمة بأسس عشائرية هي كانت جزء من سياسات الاستثنائية التي كانت تسعى إلى إعادة التوازن السياسي فلابد من إعادة أشكلة المجتمع للتجاوز من القبيلة السياسية التي حتما ستعطل العمل السياسي والتحول الديمقراطي.

هناك بالفعل تحديات جمة تقف امام التجربة الصومالية الأن وأولها ادارة هذا التحول، لأن مرحلة التحول من أشد المراحل حساسية في تاريخ المجتمعات، والشيء الثاني هو ترسيخ مبدأ المؤسساتية وإكمال مشروع الدولنة وإنهاء الحالة الاستثنائية التي كان سائدة أثناء السياسات الانتقالية التي انتهجها الأنظمة الانتقالية، والتحدي الثالث والمهم هو التفاعل بين الدولة والمؤسسات الاجتماعية وفي مقدمتها مؤسسة العشيرة، وانا اعتقد اننا نحتاج إلى اعادة تشكيل المجتمع الصومالي اجتماعيا وسياسيا، وعلى هذا الاساس لا بد من وعي من جديد وسياسات جديدة ودماء جديدة تحرك العمل السياسي وترسخ مبادئ مهمة مثل حكم الرشيد والديمقراطية ودولة القانون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.