شعار قسم مدونات

الأقدار.. مشاهداتي في "العناية المركزة"

مدونات - مستشفى غزة

في غُرفة غَيار الملابِس، أستعدُّ لِبدأ يومي كمُمَرّض في العناية المُكثّفة، في مكاني حيث أقف قُبِضَت روحُ زميلٍ لنا كان من المفترضِ أن يستلِمَ مريضاً من المحتمل أن نفقده في أيّ لحظة، فمات الممرض وبقي المريض! عندها توقفتُ عن التفكير، شعرت أن المنطق ينتهي خلف باب القِسم لا حُكم للمنطِق هُنا وإنما هناك القدَر الذي لا ينتظر منك تحليل أو تفسير.

 

القسم به الثمانيني والعشريني، الثمانيني قد شُفِي ونقوم بعدّ أوراق ملفّه كي نجهزهُ للخروج، والعشريني نقوم بعد الأيام المتبقية له من عمره! أدخل للقسم استلم المريض محمداً العشريني، وضعه الصحي صعب جداً اسماءٌ لأمراضٍ طويلةٍ وكثيرة، أمراض صنفها الإنسان بالخبيثة والحميدة، مُزمِنة وأخرى حادة، المريض وضعه يزداد سوءاً، أضيفت له أدوية جديدة فحوصات إضافية وتشخيصات قاتلة، صوت في ذهني من الله يقول: مرضت فلم تَعُدنِي، أْجيب: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟، يقول: مرض عبدي فُلان فلم تزره لو زُرته لوجدتني عنده. لذلك اعتدت عند استلامي للمريض استحضار نية الزيارة اثناء دوامي وذلك مصداقاً لهذا الحديث القدسي القائل لو زرته لوجدتني عنده، هنا أتاني الشعور ان الله عند محمد، الله هنا في القسم سميع بصير، انظر لمحمد وأقول بنفسي: الله رقيب هو أرحم وأعلم وأخبر، فمراقبتي محدودة بجهاز ورحمتي محصورة بقلب وعلمي لن يتعدى ما اُبصِر وخبرتي لن تجتاز بضع سنوات.

 

مريضةٌ أُخرى أربعينيةٌ بجانبِ مُحَمد هي من أفضل الحالات في القسم، وإن صح القول هي الوحيدةُ المستيقظة وتستطيع الكلام، عدتُ لدوامي بعد يومين فلم أجدها وتوقعت انها خرجت، وبالعادة إن خرج أحدٌ من القِسم على قيد الحياة يكون أشبه بالعيدِ عندنا وعند الأهل لندرة ذلك، فسألتُ زملائي عن فرحة أهلها بها، أجاب زميلي: أتقصد فاطمة رحمها الله!

 

عن أولئك الأهل الذين استقبلوا خبر استشهاد ابنهم إثر رصاصةٍ طالَ إثمُها كلَّ مَن دعمَ ونصرَ وأيّد وبارك بهذا الكيان الصهيوني الظالم، فترى في الرصاصةِ ما لا يرون

خالد مريض مستيقظ على جهاز التنفس الصناعي بشهيق وزفير وفي مرحلة الزفير يستغلها خالد فيقول: يا رب يا رب يا رب، وبجانبه مريض وضعه أفضل بقليل يسب ربه!، الله هنا يسمع من يناديه ويسمع من يسبه، وأتخيله شديد العقاب ذي الطول العزيز الحكيم الرؤوف ناظر اليهما، أستشعر ألم الأول رفع درجات وتنقية من كل ذنب والله عنده يعده ان صبر سيوفّى أجره بغير حساب، وأستشعر ألم الآخر تحضير لما بعده.

 

في العناية المكثفة ترى حسن الخاتمة وسوءها، خالد يشير لي بيده يطلب مني شربة ماء، فلسانه مشغولٌ بقولِ يا رب ولا يفتأ يتركها، أحضرت له كوباً أزلت الجهاز عنه اشربته فتفل الماء ولم يستطع الشرب ولو حتى رشفة، اسأل نفسي: هل انتهى رزقه في الدنيا؟، وعند موعد اعادته للجهاز مرة أخرى اعدته للجهاز ووضعه مستقرٌّ بسوءِه، وفي نفس الوردية لم يكن لخالد من اسمه نصيب، توفي خالد وكان اخر ما قاله "يا رب"، والله ناظر فهو القائل: لوجدتني عنده.

 

مريض يَدِين بغير ما اعتقدنا وآمنّا، أكثر من شرب الكُحُول والخُمُور فتَلِفَت أعضاءُه، عناية خاصة رعايةٌ فوقَ التصوّر، وكلما زادت خانات الرقم المدفوع للمشفى زادت الرعاية، هكذا هو العمل المؤسساتي ذي الرؤيةِ البشريةِ المحدودة -الراحة مقابل المال-، لكن لا ضمانَ لراحةِ المريض، ضمانُ الراحة هو راحة عينيك عندما ترى شكلهُ الخارجي فقط، أما راحة المريض فضمانها عند من هو عنده -عند الله-، حاولوا تحقيقَ سلامٍ داخلي وراحة لدى المريض، فقالوا: من راق؟، وأتى راقيهم يُرقي ويَستعين بما أشرك، فلم يشفِ ولم يغنِ من ألم، والله ناظر.

 

انظر لمريض موصول بجهاز غسيل الكلى أقول في نفسي لماذا يريد الله مني أن أزور هذا المريض؟، بدأت أتذكر ماذا اعطاني الله عوضاً عن هذا الجهاز الكبير وعن تلك الأنابيبِ الطويلةِ والفلاتر والادوية، فقارنت ذلك في ذهني، مريض الفشل الكلوي يغسل مرتين أو ثلاث اسبوعيا الجلسة مدتها 4 ساعات لا تستطيع الحراك فيها، وتكلفة الجلسة الواحدة ما يقارب 1000 شاقل أي ما يعادل 285 دولار أمريكي، بينما في الوضع الطبيعي عند الإنسان السليم تقوم الكلية بفلترة الدم أربعين مرة يوميا وبكفائة أعلى وبإمكانك التنقل بحرية، أي أننا ندين لرب العالمين بـ40 ألف يومياً مقابل نعمة فلترة الدم وحدها، فلو حسبنا لسنة ثم لخمسين كحد أدنى، المبلغ كبير جداً! ناهيك عن الوظائف الأخرى للكلية التي تعطلت والتي تحتاج لمبالغ أخرى لتعويضها.

  undefined
 
ربما نعمة الكلية أقلهن! أدركت ذلك عندما نظرت لمريض بجانبه مريض بالسرطان أحسب في ذهنيي ما غطاه التأمين من علاجٍ كيماوي، والذي ما زال يأخذه حتى تلك اللحظة، وعمليات استئصال للورم وغيرها، فأنت عندها تدخل في ميزانيات ضخمة! عدت للمريض الأول ذلك الأربعيني العجوز! نعم عجوز، عجوز الملامح عجوز الأعضاء عجوز القلب ربما لم يبقى من شبابه سوى روحه أو هكذا كنتُ أظن، حتى أتى أخوه لزيارته الذي كنت ابتهج حين أراه يرعاه ويهتمُّ به، وسُرعان ما انتهى ذلك الابتهاج عندما علمتُ انه قد اشترط على اخيه ان يعطيه أرضه مقابل قيامه به والقيام على رعايته! والله ناظر.

 

ربما ذلك الرجل لم يعطه الله ولداً يقوم به لأمر هو قضاه واختبر أخاهُ به، أما عن تلكَ المرأةِ التي أعطاها الله الولد وكلٌّ منهم له منصبهُ في بلدٍ غربيّ أو عربي، امرأة احضرناها من بيت العجزة! لا مرافق ولا سائل ولا أحد يتابع، تكفلتِ الدولة بها وبعلاجها حتى ماتت، وعند موتها أيضاً لا أحد إلا الله، والله ناظر.

 

وعن أولئك الأهل الذين استقبلوا خبر استشهاد ابنهم إثر رصاصةٍ طالَ إثمُها كلَّ مَن دعمَ ونصرَ وأيّد وبارك بهذا الكيان الصهيوني الظالم، فترى في الرصاصةِ ما لا يرون، ترى عرباً وعجماً ومُتَأسلِمين وكافرين، ترى إثماً طال آلافاً بل ملايين، من كلِّ من دعم وصفّقَ وابتسم، وبكل رضا وتسليم استقبل الأهل خبر حياةِ ابنهم!، نعم حياة، فكيف لي أن أقولَ أنه قد مات والله يقول هم أحياء بل يرزقون أيضاً، فكأنك تسمع الله وهو يسأل ملائكته وهو أعلم: "قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِ عَبْدِي؟" قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: "فَمَا قَالَ؟" قَالُوا: حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ. قَالَ: "ابْنُوا لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ".

 

أغادر المشفى والله ما زال، بل الله باقٍ في كل مكان يسمع ويرى لا يعزب عنه مثقال ذرة ولا أصغر من ذلك، ولربما هذا ما رأيت فكتبت في أسطر، ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام، والبحر يمده من بعده سبعة أبحرٍ حبراً ما نفدت كلمات اللهِ العزيز الحكيم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.