شعار قسم مدونات

من ظن فلسطين تنزف الآن.. فليراجع نفسه

مدونات -فلسطين غزة

"من ظن فلسطين تنزف الآن، فليراجع نفسه.. إنما تتبرع بدمائها لأمة أصبحت بلا دم"

 
إنها عبارات تختصر كل شيء، في زمن مات فيه ضمير الإنسانية، حيث طغت المادية وسادت الوصولية السياسية، وعاثت الماكينة الصهيونية في الأرض فسادا وكسادا، في غياب تام لمن يسائل تغولها، وينهيها عن أفعالها الدنيئة الخسيسة، ويوقف نزيف الدماء التي تلطخت بها باحات الأطهار في أعز الأمصار، مسرى الأنبياء والرسل. عدا أحياء الضمير من أمتي، الذين لم ينل منهم الاستسلام شيئا، فباتوا يرددون شعارات أمل العودة الموعودة، بكل إرادة وعزيمة، لا يأبهون لتكالب الأنظمة، وتناسل الصهيونية في مجاري الصخب الثقافي، والمياه الآسنة..

 
فلسطين أمنا، التي فرط فيها أبناؤها، عندما تركوها تبكي على أطلال الحضارة والتاريخ، لوحدها، حيث تقاوم آهات الزمان بمفردها، وتكتوي بلحيف الاحتلال، ولا مناصر. ستبقى غصة في حلق من أهداها للمحتل بلا شروط، فقد ضيع الأمانة من حيث اعتقد أو لم يعتقد، أدرك حجم الخسارة التي مني بها، أم لم يدرك.. إنها خيانة تاريخية وثقافية وحضارية وفكرية بكل تأكيد مهما كانت المبررات.

 

لم يتجرأ الصهاينة على الإقدام على مثل هذه التصرفات البذيئة، إلا عندما تنصلت أمة المليار عن مسؤوليتها التاريخية، وابتعدت عن أم قضاياها، وإن فعلت وأنبها ضميرها، استنكرت وتأسفت، ونددت، ورفضت، وامتعضت، فذلك أفقها، وسقف تفاعلها مع روحها المسلوبة، وهويتها المنكوبة، ووجودها الحضاري المسحول.. فأي عزة هذه! وأي أنفة! وأي شجاعة! وأي كرامة!

  

حكامنا الذين يتكبدون عناء سياستنا وإدارة شؤوننا، لا يألون جهدا في التنديد بكل ما يمس مقدساتنا، وأجمل به من إنجاز عظيم!، وإنه لشرف كبير لنا أن يكون من بيننا من يعبر عن قلقه إزاء ما يحصل!

ما تعيشه فلسطين الأبية من احتلال غاشم، وخناق مطبق، وسلب حقوقي معيب، حتمية طبيعية لما حلل بالأمة كلها؛ من تشظي غريب، وتشرذم عجيب، وتردي مريب، فما لم تستفق جماعة المليار من وهدتها التاريخية، والحضارية، والثقافية، والفكرية، سيظل الوضع على حاله، ويبقى وصمة عار على جبين أمة خانت الأمانة العظمى، إلى أن يرأف بنا الرحيم، الذي لا عزة لغيره.

 

لم نعد نحس أننا جزء من تلك البلاد الطاهرة، التي يؤدي أهلها ثمن صمتنا، وعزوفنا، وغربتنا التي طال مكوثها. لقد تعودنا سماع أصوات المنددين، والمتحسرين، والرافضين، لكن لا أثر لها في قلوبنا، فبتنا نحس، كمن يشاهد دراما مدبلجة، ووقائع سينمائية مثيرة؛ أصوات هنا وهناك، دماء هنا وهناك، نحيب وبكاء، حزن وشقاء، بروز وفناء، سرعان ما ينتهي الأمد الافتراضي، فتخبو الإرادة المناصرة، المتفاعلة، والمناكفة، والمنافحة، لتعود بعدها الشكيمة إلى سابق عهدها، أو لنقل تخبو جذوتها، كأن شيئا لم يقع.

 
قضيتنا الفلسطينية هي قضية استراتيجية، وهويتنا الحضارية، بل هي تاريخنا، الذي يكتنز مجدنا، وعزتنا، وبطولاتنا، يوما كنا منسجمين، متراصين، متلاحمين مع هموم أمتنا، متماهين مع وجودنا الثقافي، الذي لا نرضى بغيره سبيلا وبديلا. إذا كان أهلنا في أرض المسرى يكتوون بلظى القنابل الإسرائيلية والأمريكية، في كل مرة عبروا عن مشروعية مطالبهم، فإن "النحن" الذي يسكن وعينا الجمعي، يصطلي بلحيف الغربة الوجودية والقيمية، في سياق سياسي وفكري لا يزيدنا إلا أسلبة واغترابا وابتعادا عن مصير أمتنا. فحكامنا الذين يتكبدون عناء سياستنا وإدارة شؤوننا، لا يألون جهدا في التنديد بكل ما يمس مقدساتنا، وأجمل به من إنجاز عظيم!، وإنه لشرف كبير لنا أن يكون من بيننا من يعبر عن قلقه إزاء ما يحصل من تنكيل وتقتيل وسحل وتمريغ لأنفة العرب في تراب الذل والمهانة.

 

وهل بعد هذا ذل؟ وهل بعده غربة؟

رغم كل الندوب، التي أصيب بها جسد أمتنا، يبقى الأمل في الشعوب بعد الله معقود، إذ هي الحياة الجديدة للقضية، والحامل الآمن لهموم الأمة، بعدما أن خانت الأنظمة الأمانة، فباعتها مقابل كراسيها العاجية، ونظير وهم الاستقرار الموعود. فلسطين منصورة بإذن الله، فلا شك في ذلك، إنه وعد من الكريم الذي لا يخلف الميعاد، بيد أنها ستظل حلقة هامة في سيرورة التاريخ، لمساءلة ضمير الأمة، واختبار عزتها، وقوتها، وتعرية غثائيتها، وزيف ادعاءات من نصبوا أنفسهم زعماء القضية، في الالتفاتات التنديدية الخجولة.. والبيانات الغريبة، وفي المقابل تطبيع وتغريب وفتك بأوصال القضية..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.