شعار قسم مدونات

خواطر سورية نَبتَت في الغربة

blogs فتاة سورية

كواحدة من الكثيرات اللواتي حملن الجنسية السورية من والدهن عبر تلك الأوراق الباردة، نشأت في تلك الغربة بعيدة عَنْ تُراب وطني كأيّ طفلةٍ لا تعرف سبب بُعدها عنْ تلك القطعة الصغيرة في أعين الكثيرين، الكبيرة بداخلها، عَنْ قطعة منها انْتُزعت منذ ولادتها حتى الآن دون أدنى ذنب، كَبرتُ بعيداً عَنْ مدينتي الشهباء تلك، التي طالما تغنى بها كلّ روادها، مدينة الأدب والحب والتراث والأثار العريقة على مرّ العصور، حلب وما أدراكم ما هي حلب؟

كثيراً ما كان يعتصرُ قَلبي الألم عند سماعي للكثير من حولي مِمَّن لا يحملون الجنسية السورية التي أحملها عنْ زيارتهم لمدينتي، وتغزلهم بها وبباقي محافظات بلدي التي مِنْ بين تلك الأوراق التي أحملها أُعدّ أنني جُزءٌ منها ..فأجدني دوماً على مقربةٍ مِنْ أولئك الذين عاشوا لحظاتٍ مهما كانت قليلة في بلدي، وأنجذب تلقائياً لكلّ حديث عنها وإنْ كان عابراً، ويرف قلبي ويتراقص حينما أُحادث مَن هم فيها واصفين لي تفاصيلها الجميلة، أما حين أرى صورها على احدى المواقع فيخنقني شعور البُعد والاغتراب.

في كلّ مرةٍ كان قلبي يلتفت قبل عيناي في شوارعِ عَمان حينما تتطاير إلى سمعي كلمات سورية لأشعر ولو للحظاتٍ أنني في حارات وطني ومُدنه ..كم تمنيت أن أحظى بصورٍ بين ربوع سورية الخضراء الجميلة ومعالمها السياحية العريقة التي تحمل كل حجارة فيها مئات القصص القديمة والأحداث التاريخية التي شهدها وطني.

لطالما حَبست عبراتي ومنعتها من الهطول لِئلا أسمع العبارات المُكررة ذاتها، عبارات رغم بساطة لَفظها إلاّ أنّ كلّ حَرف مِنْ حروفها كان يغرز سكيناً في صدري آنذاك، كيف لي وأنا ابنة تلك البلاد أَنْ لا أراها إلا على شاشات التلفاز أو على مواقع التواصل الالكتروني تلك، أو مِنْ خلال حديث البعض مِمّن حظي بتلك الفرصة لزيارتها كأيّ مدينة في قائمة المدن السياحية لديه في حين أنها حلمي البعيد وربّما المستحيل الذي أُحاول دائماً الوصول إليه!

خُلقنا ونحن نَحمل حبّ الأرض التي ننتمي إليها وإنْ لم نرها، فبقيت هذه البذور تمتد فينا وتكبر إلى أن امتلأنا بها وصارت جزءاً لا يتجزأ منّا

أيّ ذنب فادح أكون قد ارتكبت لأُحْرَم مِنْ أبْسط حقوقي؟ أيُعقل أنّ قدَمايَ لم تطأ يوماً أرضاً أنتمي إليها، وأنّ أقصى آمالي باتَتْ رؤية وطني الذي أحمل هويته أينما حَللّت وارتحلت؟ قاسٍّ هو ذاك الشعور بالعجز تجاه حُلم ينمو بداخلك يوماً بعد يوم وأَنْتَ تقف في المنتصف عاجزاً عنْ السير خطوة واحدة في سبيل تحقيقه.. وها أنا اليوم أرى بلدي الحبيب على فوهةِ بركان وحده يُعاني ويقاسي أشدّ العذاب، وباتَ الكثير من أبناءه في المنفى في كلّ بقاع الأرض.

أرجوكم دعوا معالم وطني وخيره وكلّ ما فيه لنا، اتركوا ما تبقى منه لنراه حينما نعود يوماً.. كفاكم عبثاً، كفاكم حرباً. أُدرك جيداً معنى فقدان الوطن، ومعنى أنْ يَترك الإنسان كلّ ما حملته سِنينه من ذكريات ويُقذف إلى المنفى في ليلة مُظلمة دونما عودة، لَكنّ مَنْ ذاق العلقم والمُرّ لِفُقدانه لِوطنه منذ ولادته يُعاني شعوراً ربما أعمق جرحاً وألماً مِمَّن سنحت له الفرصة وحالفه القدر لِينبت من ماء وهواء وتراب وطنه، يكفيه أنه قد خرج مِن رحم أمه لأحضان ذلك الوطن الدافئ الجميل رغم كلّ ما حدث.

خُلقنا ونحن نَحمل حبّ الأرض التي ننتمي إليها وإنْ لم نرها، فبقيت هذه البذور تمتد فينا وتكبر إلى أن امتلأنا بها وصارت جزءاً لا يتجزأ منّا.. فهل ستجمع الأيام يوماً ما شملنا ونطأ تراب بلدنا ويعود كل الأبناء لحضن الأم بعد كلّ تلك السنيين! أم أننا سنبقى في هذه الأرض في اغترابٍ دائم بين تلك الحدود الكثيرة لا نعرف ما هي الوجهة التي تنتظرنا!؟ وهل ذاك اللقاء سيبقى أحد أحلامنا البعيدة لا أكثر..؟! مهما طالت المسافات وبقي من العُمر ما بقي سأنتظر لحظة اللقاء بوطني ولو للحظةٍ قبل مماتي وعسى أن يكون ذلك اللقاء قريباً..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.