شعار قسم مدونات

أصحاب الخوذ البيضاء.. الباحثون عن الموتى

blogs الخوذ البيضاء
يحرصُ بعضُ الكُتَّاب، سواءٌ في ذلك الغربيّين والشرقيّين -سيّما كُتَّاب الأدبِ منهم- بشتّىٰ فنونه، علىٰ اختيارِ عناوينَ طريفة أو غريبة لمؤلّفاتهم، كنوعٍ مِن التَّشويق وإثارةِ فضول النَّاس نحوها، وإشاعتِها بينهم لسلاستِها وسهولتِها، ولحفظِ أخبارِها وإذاعةِ آثارِها؛ حكايةُ الطِّرافةِ والغرابةِ في العناوين لم تبدأ عند كتاب (رسالة إبليس إلى إخوانه المناحيس) ولم تنتهِ عند كتاب (فضل الكلاب على كثير ممّن لبس الثياب)، بل إلى وقتِنا هذا ما زلنا نقرأُ كلّ حينٍ عجبًا.

وقع بصري قبلَ عامٍ على كتابِ (أسوأ المهن في التاريخ) للكاتبِ والممثل البريطانيّ توني روبنسون، استغربتُ عنوانه، واستظرفتُه، فشدّتْ نفسي رِحَالَ فضولِها إلى قراءَتِه، والاطّلاع على صفحات العمالةِ البائسة التي مرّتْ بتاريخ العالَم، لكي أعلمَ في أيِّ الفريقين أنا كائن، في المهنِ السيّئة أم بضدِّها!

يحكي الكتابُ قصص المهنِ التي تعاقبَت علىٰ بريطانيا خلال ألفي عامٍ مِن تاريخها، فاختار روبنسون ما رآه سيِّئًا مِنها وصيَّرها في كتاب؛ بدأ بالعهدِ الرّومانيِّ القديم، وعرَّجَ على العصور الوسطىٰ، وانتهىٰ بالعهد الفيكتوري؛ وبسردٍ لطيفٍ وأسلوبٍ حَسَن ذكرَ المِهنَ التي برَزت في كلِّ عصرٍ منها، ولا يخلو بعضها مِنَ الطّرافةِ حينًا كمهنةِ (الباحث عن أعقاب السّجائر، وصائد الجرذان)، ومن الانقباضِ والنّفور حينًا آخر عند ذكر مهنٍ كثيرةٍ تأنفُ النفس ذِكرها! ولستُ في مَعرضِ الحديثِ عن الكتابِ وفحواه، وتفاصيلِه الطّويلة؛ إنّما استوقفتني مهنةٌ ظهرَت في (العهد الستيوارتي)، عندما حلَّ مرض (الطّاعون) وعمّ أرجاء بريطانيا، أو ما يُعرَف بـ(وباء الفقراء) كما كان يُسمِّيه الإنكليز قديمًا؛ لأنَّ أكثرَ مَنْ يُصابون بهذا المرضِ القاتِل يكونون مِنَ الفقراء؛ لقلّةِ قوتِهِم، وسوء تغذيتِهِم، وضعف مناعتِهِم.

الطّاعونُ بشرِّهِ وقساوتِه، وشدَّتِه وضراوتِه، ما زال حاضرًا إلى ساعتنا هذه، استشرىٰ بأهل زمانِه، وتوغّل بيوتهم، وأقام حيث أقاموا، واستفحل حتّى ليكاد أنْ يُهلك النّاس جميعًا

الباحثون عن الموتىٰ (Searchers of the Dead)، برزت هذه المهنة في زمن الطّاعون الجارف سنة 1665 للميلادية، حيث بلغ عدد الموتىٰ في أول شهرين مِن اجتياحِه زهاء ستة آلاف شخص، ثمّ ارتفع العدد إلى واحد وثلاثين ألف شخصٍ في مدة قصيرة؛ يتلخّصُ عمل أصحاب هذه المهنة، بالبحث عن الموتىٰ في الطُّرقات والحانات، وعلىٰ الأرصفة وفي الأماكن العامة، والدخول إلى المتاجر والمنازل ومعايَنة أهلها، وأخذ الموتىٰ، ونقل المصابين منها، ووضع علامةٍ على باب كلِّ بيتٍ ولج إلى جوفِه الطاعون، ليصير أهله تحت حجرٍ صحيّ تام، إلى أنْ يقضي الله بهم أمره؛ يصفُ الكاتب هذه المهنة أنَّها مهنةٌ سيئة، بل هي الأسوأ إطلاقًا في تلك السّنين العجاف، ويرى أنّ العاملين بالبحث، يلعبون بالموت، ويُعرِّضون أجسادهم وحياتهم لوحشِ المرض والأوباء التي تنتجُ عنه، وتتفرعُ منه؛ فالطّاعون سريع الانتشار، عَجُول العدوىٰ.

الطّاعونُ بشرِّهِ وقساوتِه، وشدَّتِه وضراوتِه، ما زال حاضرًا إلى ساعتنا هذه، استشرىٰ بأهل زمانِه، وتوغّل بيوتهم، وأقام حيث أقاموا، واستفحل حتّى ليكاد أنْ يُهلك النّاس جميعًا، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وكأنّها بضيقِ خاتم، ولم يعد المرء يأمن على حياتِه مِن تجنّيه وعنَتِه؛ نعم، فلكلِّ زمان طاعون، يختلف بالنّوع والأعراض، ويتشابه بالفَتكِ والبَطش؛ والباحثون عن الموتىٰ ما زالوا يدأبون بعملهم على قدَمٍ وساق، حاضرين بشهامتِهم، وعلوِّ همتِهم، ونقاء فطرتِهم.

ما مِن أحدٍ إلّا وسمعَ عن (طاعون الأسد)، الذي تسلّط على السّوريّين، بل على أبناءِ الأمّة قاطبة، ولم يدع موضعًا فيهم دونما قرح أو جرح، ودمَّر حضارة السوريين وإرثهم، ومحا ما بقي مِن تاريخِ أجدادهم، وعزِّهم ومجدِهم، وجلبَ إلى بلاده العقد النفسية، والأوصاب الطّائفية التي لم تعدم وسيلة في مسادنته على الإبادةِ والتهجير الفاشيِّ الممنهج؛ فتركوا الشّعب يُكابد بُرَحاء الأشجان، مِن لوعات الفقد، ومرارات الحرمان، ويُحاول دفع السّغب واللّغوب عنه، على وطنٍ مستباح، وأرضٍ مغتصبة، فللهِ ذيّاك الشّعب! طاعون الكيماوي، طاعون البراميل وأخواته، طاعون المعتقلات والتعذيب؛ تباينت الصِّفات والفعل واحد، اختلفت المُسَمَّيات والنتيجة واحدة.. الموت!

undefined

أما عن الباحثين عن الموتىٰ، فلستُ أجدُ في عملهم سوءًا -كما وصف الكاتب- بقدر ما أجدُ فيه إنسانية خالصة، ومهنة شريفة ماجدة، لا يُوَفَّقُ إليها إلّا كلّ ذي حظٍّ عظيم؛ ذلك أنَّ المهنةَ بقيت إلى يومنا هذا، وشاهدنا صنيع أهلها، وكدِّهم وسعيهم في البحث عن الموتىٰ وإكرامِهم، وانتشال بقايا حياةٍ مِن بين ركام الموت، ونجدة رمقٍ ظنَّ صاحبه أنّه الأخير، لولا يد (الباحث) التي مُدَّت إليه، وبعثت النور في عينيه، فأعادته حياته الأولى، تقولون: مهنةٌ قاسيةٌ محفوفةٌ بالمخاطر؟ نعم، فمن شدّتها وقساوتها تستمدّ رِفعتها ومنزلتها، وهذه طبيعة أكثر الأعمال العظيمة؛ وأيّ شيء في الأرض أسمىٰ وأجلّ مِن أن تُنقِذَ روحًا بشريّة (فمن أحياها فكأنّما أحيا النٰاس جميعًا).

فإذا كان الطاعون قد تجسَّد اليوم بصورته الشّيطانية بوجه (الأسد وحلفائه)، فلَعمري إنَّ الباحثين عن الموتى، تجلّوا في صورةٍ وضّاءةٍ مشرقةٍ بوجوه أصحاب الخوذ البيضاء (White Helmets)، وشتّان ما بين الدّاء والدواء، وبين السّماء والغبراء! وما مِن امرئٍ -في عهد طاعون الأسد- إلّا وزاول مهنة البحث والاستقصاء عن الموتى، إن كان في سجلات المُغَيَّبين المفقودين، أو في الصّور المسرَّبةِ من ظلماتِ المُعتَقل، وغير ذلك؛ فما دام طاعونه لا يجدُ مَن يردعه ويصدُّه عن جرائمِ طائراتِه وصواريخِها، ومسالخ سجونِه وويلاتها: فجميعُنا سيظلُّ في عِداد الباحثين.. بطريقة أو بأخرى!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.