شعار قسم مدونات

عندما تسحب منك صفة طالب جامعي

blogs التخرج
عندما كنت على مشارف تقديم البحث والتقارير الخاصة بسنوات مرت من التكوين الجامعي، والانتهاء من أخر التداريب المبرمجة في هذا التكوين، توقفت بي عقارب الساعة فجأة لتطرق مسامعي عبارة: "ستودع جو الدراسة والتكوين"، ستسحب مني صفة طالب جامعي، لقد مرت سنوات الدراسة ﺛﻮﺍﻥ، مرت ﻭﻗﻀﻴﺘﻬﺎ، مرت، ﻫﺬﺍ أقصى ما يمكن ﺃﻥ يقال إﻧﻬﺎ: "مرت".

ﺍﻧﻘﻀﺖ وﺃﺧﺬﺕ مني ما أخذت، ﻭﺃﻋﻄﺘﻨﻲ ما ﺃﻋﻄﺖ، ﺃﻋﻄﺘﻨﻲ الكثير ﺍلذي لم ﺃﺩﺭكه ﺇﻻ ﺍﻵﻥ ﻭﺃﻧﺎ ﻋﻠﻰ مشارف توديعها، ﺃﻭﺩﻉ كل ﺟﻤﻴﻞ ﻓﻴﻬﺎ، ﻭﻻ ﺃﺭى منها ﺳﻮى الجميل، ﺍﻵﻥ أجد الأمر صعبا علي فاليوم ﻫﻮ ﻧﻬﺎﻳﺔ مرحلة ﻭﻏﺪﺍَ ﺑﺪﺍﻳﺔ مرحلة ﺟﺪﻳﺪﺓ، مرحلة المسؤولية ﻭﺍﻻﻋﺘﻤﺎﺩ ﻋﻠﻰ الذات مرحلة ﺗﻜﻮﻳﻦ ﺣﻴﺎﺓ مستقلة ﻭﺟﻬﺪ ﻭﺗﻌﺐ من ﻧﻮﻉ ﺁﺧﺮ. لقد مرت السنوات ثوان، سأشتاق لأﺳﺎﺗﺬﺗﻲ الذين ﺯﺭﻋﻮﺍ ﻓﻲ ﺩﺍﺧﻞ ﻗﻠﺒﻲ حبا كبيرا للدراسة ﻭﻋﻠﻤا ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﻓﻲ ﺃﻱ مكان، سأشتاق للشخصيات الرائعة التي ﻗﺎﺑﻠﺘﻬﺎ ﻓﻲ مشواري الدراسي، الشخصيات التي قدمت لي كل الخير وما ﻏﻴﺮﺗﻪ ﻓﻲ ﺷﺨﺼﻴﺘﻲ ﻭﻃﻤﻮﺣﺎﺗﻲ ﻭﺃﺣﻼمي.

يجذبني الحنين لأسترجع كل يوم مر خلال السنوات الماضية، لا.. لا كل دقيقة مرت، ذلك الارتباك يوم يحين دورك لإلقاء عرض ما رفقة صديقك في المجموعة، تلك الحروب الباردة رافقته حول طريقة وضع الإشكالية، أنا من سيلقي المقدمة، لا أنت من سيتكلف بالقسم الأول، قم بتسيير النقاش، نهمس في أذن بعضنا البعض أنا سأجيب على السؤال الفلاني، لا دعني سأجيب عليه أنا.

ذلك المكان في زاوية المائدة المستديرة من القاعة، ذلك الصراع مع سائق الحافلة لكي يمر على محطة الكلية لأنني تأخرت عن الحصة، ذلك الحوار الطيب مع إخواني ونحن في انتظار أستاذ المادة، لحظات ستبقى خالدة في ذهني ما حييت. ما جعلني أرجع لأتذكر كل هذه اللحظات هو ﺃﻥ ﺍﻟﺠﺎﻣﻌﺔ كانت تعد بالنسبة لي ﺍﻟﺒﻴﺖ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ ﺇﻥ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺍﻷﻭﻝ، ﻓﺎﻟﻮﻗﺖ الذي ﻧﻘﻀﻴﻪ ﻓﻲ الجامعة ﻳﺰﻳﺪ ﻋﻦ ﺫﺍﻙ الذي ﻧﻘﻀﻴﻪ ﻓﻲ المنزل، فقد كانت مكان أعيش ﻓﻴﻪ، نأكل ﻭنشرب ﻭنصلي ﻭنذاكر ﻭنلتقي الأصدقاء، لهذا أجد الأمر ﺃﺷﺒﻪ بالخروج من الدائرة ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ التي ﺃﺣﺴﻨﺖ ﺻﻨﻌﻬﺎ لنفسي ﺧﻼﻝ ﺃﻋﻮﺍﻡ الدراسة، دائرة ﺃلفتها ﻭﻭﺟﺪﺕ ﺑﻬﺎ المأوى ﻭﺳﺒﻞ الراحة ﻭﺍﻻﺳﺘﻘﺮﺍﺭ، لتترك كل ذلك ﻭﺗﺸﺮﻉ ﻓﻲ ﺗﻜﻮﻳﻦ ﺩﺍﺋﺮﺓ ﺍﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺟﺪﻳﺪﺓ ﻓﻲ مكان مجهول.

بالرغم من انتهاء سنوات التكوين إﻻ أن ﺛﻤﺔ ﺷﻚ ﺑﺄن ما زرع ليس كافيا، إنها مرحلة تحاصرني بمجموعة من التساؤلات اﻟﻤﺨﻴﻔﺔ واﻟﻤﺸﺎﻋﺮ الجياشة
بالرغم من انتهاء سنوات التكوين إﻻ أن ﺛﻤﺔ ﺷﻚ ﺑﺄن ما زرع ليس كافيا، إنها مرحلة تحاصرني بمجموعة من التساؤلات اﻟﻤﺨﻴﻔﺔ واﻟﻤﺸﺎﻋﺮ الجياشة
 

الآن أﻗﻒ ﻋﻠﻰ ﺑﻮﺍﺑﺔ الحياة ﺧﺎﺋﻔا، كما كنتُ ﻗﺒﻞ ست سنوات، ﺃﻗﻒ ﻋﻠﻰ ﺑﻮﺍﺑﺔ الجامعة ﺧﺎﺋفا مترقبا أودع إحساس الامتحان، الذي كانت ﺗﺘﺴﺎﺭﻉ ﻷﺟﻠﻪ ﻧﺒﻀﺎﺕُ قلبي ﺧﻮﻓًﺎ ﻭﺭﻫﺒﺔ، ليس لضعف ﺗﺤﻀﻴﺮيَ له، ﻭﺇﻧّﻤﺎ ﻫﻲ ﻃﺒﻴﻌﺔ ﺍﻻﻣﺘﺤﺎﻥ، ﻳﺘﺮﻙُ ﻓﻲ ﺍﻟﻨّﻔﺲ ﻭﻗْﻌًﺎ قويا. ربما هذه اللحظة لدى البعض ﺗﻤﺜﻞ له ﻧﻬﺎﻳﺔ مرحلة أتعبته ﻃﻮﻳﻼً ﻭﺳﻬﺮ من ﺃﺟﻠﻬﺎ ليال ﻃﻮﺍﻝ، ﻓﻴﻮﻡ ﺍﻟﺘﺨﺮﺝ ﻻ ﺷﻲﺀ ﻳﻀﺎﻫﻲ ﻓﺮﺣﺔ الخريج ﺑﻨﺠﺎﺣﻪ ﻭﻻ ﺷﻲﺀ ﺃﻋﻈﻢ من دمعة ﺃﺑﻮﻳﻦ ﺳﺎﻟﺖ ﻓﺮﺣﺎ بإبنهما الذي يكلل خريجا. لكن أنا بعد هذه الفرحة العارمة أجدني أستنطق نفسي بلغة القانونيين لأسألها لقد مرت سنوات التكوين فماذا ﺑﻌﺪ؟ ماذا ﺑﻌﺪ النجاح؟ ماذا ﺑﻌﺪ ﺗﻌﺐ السنين؟ ﻫﻞ ﺟﺎﺀ ﻭﻗﺖ الحصاد ﺃﻡ ماذا؟ ماذا ﺳﺄﻓﻌﻞ ﻓﻲ ﺻﺒﻴﺤﺔ الغد؟ وكيف ﺳﺄﻧﻈﺮ للمستقبل؟

ﻫﻞ ما ﺗﻌﻠﻤﺘﻪ ﺧﻼﻝ السنوات التي مضت ﻳﺆﻫﻠﻨﻲ لخوض ﺳﻮﻕ العمل ﺑﺨﻄﻰ ﻭﺍﺛﻘﺔ؟ فقبل هذا الوقت كنت محصن، ﺇﻥ ﺗﻔﻮﻗﺖ ﻓﻠنفسي ﻭﺇﻥ ﻗﺼﺮﺕ ﺃﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻓﻠﻦ ﻳﻌﺎﻗبني أحد، ﻭﻓﻲ مجال العمل ﺇﻥ ﺗﻔﻮﻗﺖ ﻓﻠﻨﻔﺴﻚ ﺃﻳﻀًﺎ لكن ﺇﻥ ﻗﺼﺮﺕ ﻓﻼ مكان لك بينهم. ﺇﻥ ﺃﺧﻄﺄﺕ في مشوارك الدراسي ﻓﻼ ﺑﺄﺱ، ﺃنت ﻃﺎﻟﺐ ﺟﺎﻣﻌﻲ ﻭﻻ ﺯلت تتعلم، لكن ﺇﻥ ﺃﺧﻄﺄﺕ ﻓﻲ معلومات ﺧﺎﺻﺔ ﺑﺘﺨﺼﺼﻚ الدراسي ﺃﺛﻨﺎﺀ العمل ﻓﻘﺪ ﺍﺭﺗﻜﺒﺖ ﺟﺮما ﻋﻈﻴﻤًﺎ وسيقولون ﻗﺪ ﻇﻠﻤﻚ من ﻭﻇﻔﻚ، ﺃما ﺇﻥ ﺃﺻﺒﺖ ﻓﻬﺬﺍ ﻭﺍﺟﺐ ملقى على عاتقك ﻻ ﺗﻔﻀﻞ منك.

وبالرغم من ﺃﻥ ﺍنتهاء سنوات التكوين ﻫﻮ ﺣﺼﺎﺩ لما زرع ﺧﻼﻝ ﺳﻨﻮﺍﺕ ﺇﻻ ﺃﻥ ﺛﻤﺔ ﺷﻚ ﺑﺄﻥ ما ﺯُﺭﻉ ليس كافيا، إنها مرحلة تحاصرني بمجموعة من التساؤلات ﺍﻟﻤﺨﻴﻔﺔ ﻭﺍﻟﻤﺸﺎﻋﺮ الجياشة، مرحلة شبيهة بمرحلة اكتئاب الحمل، وﻫﺬﻩ ﻫﻲ ﻃﺒﻴﻌﺔ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻋﻨﺪما ﻳﺤﺪﺙ ﺣﺪﺛًﺎ ﺟﻮﻫﺮﻳًﺎ ﻓﻲ ﺣﻴﺎﺗﻪ من ﺷﺄﻧﻪ ﺃﻥ ﻳﺰﻋﺰﻉ ﺍﺳﺘﻘﺮﺍﺭﻩ المعتاد، وهكذا أجد نفسي وانا على مشارف توديع سنوات مرت من التكوين.

خاتمة الخاتمات أقول لمن ما زالوا في مدرجات الكلية، أو كراسي المؤسسات أو غيرها، كونوا أصدقاء للجميع الأكبر منكم والأصغر، استمعوا إلى كل وجهات النظر من حولكم باحترام وتقبل، وصاحبوا الأخيار وإن ابتليتم برفقاء السوء فكونوا أنتم الذين يقال فيهم: "الصاحب ساحب" واسحبوهم للخير وللنور، وكونوا أنتم المؤثرون عليهم ليكونوا أفضل مما هم عليه، ولتكونوا أوفياء لقدسية الصداقة بما تحتويه من معان وقيم، وإن فاتكم التكوين أو فرصة طلب العلم يوما فينبغي ألا تفوتكم الأخلاق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.