شعار قسم مدونات

د. وائل صلاح.. إليكَ بعدَ رحيلِك

مدونات - دكتور وائل صلاح

كم هو صعبٌ أن تكتُب للأحياء الحاضرين، أما للراحلين فالكلماتُ تتنافس في الخروج لتنساب مُنهمرة فتجعل الإمساك بها صعباً وصعباً جداً، لكنّ خير كلامنا بلا شك هو الدُّعاء الصادق لهم بالرحمة والمغفرة والفردوس الأعلى، وذكرُ محاسنهم كلما واتتنا الفرصة.

 
وائل صلاح.. أيّها الطبيب الإنسان، كُنت خيرَ مثال للأطباء في مهنتهم، مُجتهداً حدّ التعب، متفانياً حدّ الإرهاق، مؤثراً مريضك على نفسِك وراحتك. ما زلتَ في ريْعان شبابك، لكنّ الموت لا يعرفُ تلك الأبجديّات، الموت لا يعرفُ إلا أبجديّةً واحدة، أبجديّة الرحيل. الموتُ حين يأتي لا يطرُق الأبواب ليستأذنك، لا يُخْطرُك بقدومه عبر رسالةٍ في هَاتفك، لا يُعْلمُك بمجيئه حتى بعد دُخُوله عَتَبةَ بيتك، لا يُمْهلُك كي تستعدّ له أو تُودِّع الأهل والرّفاق.

 
قطفَ الرحيلُ زهرتك، وغيَّب الموتُ بَسْمتك، لكنّ عزاءنا هو بصمتك التي تَرَكْتَها خلفك، وأثرُك الذي لن يُمْحى. القلب حزين، ودموعُ العين لا تريد أن تتوقّف، والبالُ لا يُريد أن يهدأ فنرتاح، والرَّحيل الذي سرقكَ منَّا على حينِ غرّة تركنا مشدوهين حائرين، لا نعرف ماذا نقول، لكن لا نقُول إلا ما يُرضي ربَّنا، وإنّا لله وإنا إليه راجعون، وقدّر الله وما شاءَ فعل.

 
في يوم عملٍ كان كغيره من الأيّام في نظرنا، لكنّ يومَك لا يُشبه أيام الآخرين في تفانيك وتعبك، وفي خِضَمّ عملك المُرهق في قسم الطوارئ وساعات العمل التي تمتدّ طيلة اليوم، في هذا اليوم كانت سقطتُك الأخيرة بين مَرْضاك، وتوقّفَ قلبُك الطيّب دون سابق إنذار، وبدل أن تكون أنت المُنْقذ كعادتك، كُنْتَ أنتَ الضحيّة هذه المرة، عاد قلبُك ليعمل بعد إنعاشه، وكانت غرفة العناية المكثفة مَرقَدَك الأخير في دُنيانا الفانية.

  

 دكتور وائل صلاح (مواقع التواصل)
 دكتور وائل صلاح (مواقع التواصل)

 
في كلِّ ليلةٍ كُنتَ تُصارع فيها الموت، كانتِ الألسُن تلهجُ بالدّعاء لك، وكانت القلوب تتضرّعُ إلى الكريم الرحيم لشفائك، كانوا على قلب رجلٍ واحد، مَنْ عَرَفك ومَن لمْ يَعْرِفك، كلُّهم اجتمعوا على محبّتك وكلُّهم رغبوا في عودتك رغم عدم معرفتهم أو لقائهم بك.. فسبحان من جمعهم لك وسبحان من حبَّبهم فيك.

 
كان الموتُ فاتحاً بابهُ ينتظرك، وكُنَّا فاتحين باب الأمل بعودتك ورُجُوعك من غيْبُوبتك، طال الانتظار ولم نفقد الأمل، لكن قضاء الله وقدره كان هُو الحَكَم. غادرتَ وتركتَ خلفكَ ألفَ سؤال، وألفَ ألفَ حيرة، غادرتَ وتركتَ خلفكَ ألفَ أمنية، وألفَ ألفَ أمل.

 
غادرتَ يومَ غادرت وتركتنا مُحْرجين جميعاً، إذْ كمْ أرهقتَ نفسكَ دُون حُدود، كم آثَرْت مريضاً على نفسك، كم سهرتَ من ليالٍ وأجهدكَ فيها العمل والجُوع. مظلومون الذين هم على شاكلتك، مظلومون الذين هم على تفانيك واجتهادك، مظلومون في ساعات عملهم الطويلة المرهقة، وضغط عملهم المضني، مظلومون ولا وجيع لهم. غادرْتَ وتوَسَّدْتَ التُّراب وحيداً، وضمَّك اللَّحدُ حيث لا أنيس ولا رفيق. جسدُك المُثابر صار ساكناً دون حِراك، قلبُك الحيّ صار ساكناً في هدوء، عيناك اللّتان أتعَبَهُما السّهر قد خَلَدا للنّوم أخيراّ، يداك اللتان طالما بادَرَتا بالمُساعدة، قدَمَاك اللتان طالما رَكَضَتا لإنقاذ مريض، كُلُها قد سَكَنَت سُكُونها الأخير.

 
لكن رغم كل ذلك أنا فرح، فرِحٌ بتلك الدّعوات التي ستحصدها حسناتٍ كالجبال بإذنه تعالى، فرِحٌ بذلك الأمل الذي بعثْتَهُ فينا، فرِحٌ بهذا الشَّمل الذي اجْتَمَع خلفك. رحِمكَ الله بقدر ما كُنتَ رحيماً بمرضاك وأكثر، رحمكَ الله بقدر ما أضناكَ التّعب وأكثر، وأنارَ الله قبرك بقدر ما أنَرْت قُلوبنا وأكثر، ووسّع الله قبْرَك بقدر ما وسَّعْتَ على المُحتاجين وأكثر، وغَفَر الله لك دُون حسابٍ أو سابق عذاب، وفي الفردوس اللقاء..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.