شعار قسم مدونات

لاجئ في وطني

blogs سفر
ممنوع من السفر خارجه، مكتوم الصوت منزوع الحقوق ولكنني ما زلت طليق الخيال.. صديقي، أنا لاجئ في وطني فماذا عنك؟! ربما تتشابه إجابتنا كثيراً، لأننا متحدثو العربية لم تجمعنا فقط اللغة، فقد جمعنا شيء يبدو أنه كلعنةِ الفراعنة أو بعض من التعويذات التي تركها لنا المحتل قبل أن يترك أراضينا.

بادئ ذي بدء.. أواسي صديقتي التي تشتت عائلتها منذ عام وثورة، حيث سلك كل منهم طريق لا رجعة فيه إلا بأمر الله، وبقت هي في عنق الزجاجة تَنتظرُ لحظة الجمع واللقاء فلما آن آوانها، خُيل لها أنه شأنها كشأن الجميع، فقامت بالإجراءات العادية التي يقوم بها المواطن العادي حينما يُقرر السفر خارج موطنه، لكن هيهات أن يحدث ذلك معها، فكانت الخطوات أشبه بالعراقيل ومع ذلك وصلت إلى المطار متمسكة بآخر الفرص..، لتدرك خطأها بعد فوات الآوان، ها هو ضابط المطار يَستدعيها للتحقيق ولأسباب غير معروفة يحقق معها لساعات طوال، ثم يخبرها بحزم أنها "لن تسافر"، وحينما سألته: لماذا.. فجميع أوراقي سليمة؟! قال لها: لأنني هكذا أُريد وفقط. وأخذوا منها جواز مرورها، وأَلقوهُ في غَيابتِ الجُبَّ.

أخرى فقدت المال والولد وبقى لديها ابنة واحدة، لم يتركوا طلباً للهجرة إلا وتقدموا إليه، بعد محاولات عدة في التشبث والبقاء في أراضي تدعى "الوطن"، لكن هذا الوطن لفظهم في كل محاولة وأهانهم في كل مناسبة ولم يتركهم آمنين في ليلة أو ضحاها.. وبعد قبول أوراقهم في المرة السادسة تقريباً ومن ثم عزمهم على الانتقال وترك الماضي خلفهم والبدء من جديد، سألت الأم ابنتها الوحيدة آخر ما تبقى لها، وطنها الوحيد وملاذها الأخير قائلة: يا فتاتي الصغيرة الآن قرري.. فأنا على حافة النهاية وكل ما أريد الآن هو راحتك فحيثما تكوني سأكون، فربما لا نستطيع العودة مرة أخرى فما قولك؟

إنني أشفق على نفسي من الانتماء لوطن كهذا، لا أستطيع التملص منه ولا المكوث فيه.. يلفظني كل يوم ألف مره، ويتركني مع آخر النجوم في السماء أسير على شاطئه، ليخبرني لن تَتركيني

سادت لحظات من الصمت حتى كُسرت ببعض من التهتهة في محاولة بداية جملة مفيدة، ثم أجابت الفتاة بكثير من الآسي وأعين ممتلئة بالبكاء: ربما لست متأكدة يا أماه!، أعلم أنك ربما تتفاجئين مني.. لكنني الآن في وضع لا أحسد عليه، هل أوافق على البقاء كـ "لاجئة في وطني" أم "لاجئة في وطن الغرباء". غرباء يا أمي غرباء وطوبى في الجنة.

"ما رأيت للمتحابين مثل النكاح".. وللحدود آراء أخرى!

تقدم الشاب لفتاة أنارت مصابيح قلبه وأطفأت لهيب وحدته فاجتمعا على حبه، لكنه الآن يقطن في إحدى البلاد الأوروبية، حيث التجأ إليها قبيل المعمعة ليُكمل دراسته الجامعية، وعندما تقرر موعد الزواج تقدمت الفتاة للسفارة للحصول على تأشيرتها الموافقة الثانية على الزواج لكنها رُفضت، فلم تستسلم وقدمت لمرات كثيرة أخرى بأغراض متعددة ولكنها لم تنجح أيضاً، والشاب بالطبع لا يستطيع النزول أبداً فنزوله يعني مُخاطرة لا تُحمد عواقبها.. وبعد خمس سنوات انفصلوا!، لم يعد هناك أي متنفس للمحاولة.

فتاة في العشرين من عمرها، ما زال الشغف يملؤها والرغبة في الانفتاح على العالم الآخر حلمها، ومساعدة الناس هي ما تسعى إليه، شاركت في الكثير من الأعمال التطوعية في بلدتها الصغيرة ومدينتها الكبيرة، ثم قررت التقدم للمشاركة في بلاد ما وراء البحار، أرسلت بيانتها لأكثر من برنامج كانت متأكدة من قبولها لكنها رُفضت، و حزر ما هو سبب الرفض! "أن دولتنا لا تستطيع إعطاء تأشيرة الدخول لكم"، ربما دولتنا أصبحت لاجئة على الدول الأخرى أيضاً.

إنني أشفق على نفسي من الانتماء لوطن كهذا، لا أستطيع التملص منه ولا المكوث فيه.. يلفظني كل يوم ألف مره، ويتركني مع آخر النجوم في السماء أسير على شاطئه، ليخبرني لن تَتركيني، فأخبره في لحظة لا وعي، لن أترُكك أنا مِنك وفيكَ ومعكْ حتى تُشرق الشمس على ضفافك. إننا نحارب كل يوم لكي نحيا على هذه الأرض كمواطنين ويصر الوطن على اعتبارنا كلاجئين، ألن يقتنع هذا الوطن أبداً أننا منه وهو لنا وكل شبر فيه من حقنا! إلى متى يا وطني.. تُظلم دربي.. أَجيئُك شوقاً، فتأخذنيِ غصباً.. أَهربُ سراً.. تَقتُلني علناً.. أَو ربُما كما قالواْ.. من الحبِ ما قتل! سيبقى، "بداخلي أمل يأتي ويذهب.. لكني لن أودعه".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.