شعار قسم مدونات

خربشات فجر آخر

blogs - writer
بأنامل مرتعشة أمسكت القلم في واحدة من محاولاتها الفاشلة للكتابة، تفصلها حقبة من الزمن عن آخر مرة اكتوت فيها بنيران الإلهام الحارقة، يتعثر القلم عندما يلامس أوراق المذكرة التي صارت باردة جدا و خشنة، إنها ظاهرة الحث التي تأتي على الصخور الصلبة فتحولها فتاتا، لا تستوي الكلمات على شكل نص بقوام رشيق كما كان الأمر سابقا، لا تستطيع إلا أن تكون نصا مهترئا ممزقا من الداخل حتى و إن كان سليم البنية اللغوية إلا أن كلماته تائهة جدا فيتيه معها المعنى ويضيع النص بأكمله.

 

تلك الكلمات التي تبدو متراصة جنبا إلى جنب ولكن اليأس والخوف يتسللان بين ما يفصلها من فراغات وفواصل ونقاط فيتحطم عن آخره كصرح أصابه زلزال فتاك، وضعت القلم وصارت تتأمل تلك الكلمات، التي تبدو متماسكة وهادئة جدا، تتراقص أحيانا تحت تأثير حركات الشكل التي تنصب بعضها وترفع البعض الآخر وتكسر من الحروف أكثرها ضعفا وتقف حائرة أمام أخرى متمردة لا تدري أي الحركات يليق بها، منها ما يجب أن يُقتلع من الجذور فحتى السكون ليس أهلا لها، أوليس هو أضعف الحركات وأكثرها مكراً؟

   

لقد زال حجاب المخدر وانفصل عالم الغيب عن عالم الواقع، دون سابق إنذار انقطع الحبل الذي يربطها بالعالم الآخر، التفتت يُمنة ويُسرة تبحث عن المذكرة والقلم

دائرة صغيرة مغلقة تحتضن الفراغ، لكن بداخلها كثير من التمرد الذي قد يكبر تحت الضغط فيصبح وحشا ضاريا يدمر كل شيء، السكون خداع جدّا، لم يستوي النص على حال بعد، لا زالت الكلمات تتعثر بين الحركات المترددة التي تجعل بعضها تارة إسما للفاعل وتارة أخرى إسما للمفعول، تبني الفعل للمجهول ثم تعود وتجعله ماضيا، ولا زالت المعاني حائرة أترجو استقرار الحال وتنتظر أم تثور وترحل بعيدا عن حركات طائشة وحروف جبانة وكلمات مغلوب على أمرها تؤمن بشدة أن مصيرها بين أنامل الكاتب وأن ليس لها من الأمر شيء.

تأملت الفوضى التي أسفرت عنها محاولتها للكتابة، هل ستواصل أم تستسلم وتتوقف من جديد؟ رغم علمها اليقين بأن لا أحد يرى ما تراه، فالكل يرى كلمات هادئة لا تتكلم إلا بمعانيها المتعارف عليها والفراغات لم توجد إلا للفصل بينها وإيضاح المعنى، عكسها التي ترى في الفواصل شقوقا صغيرة يدخل منها الماء ليفتك ببنية الكلمات فتتهاوى قبل أن توصل المعنى، فهي ليست مجرد فراغات فارغة، ومن قال إن الفراغ فارغ؟ هو شبيه بحركة السكون، متمرد حتى وإن كان لا يحمل معنى ظاهريا إلا أنه يحتوي كل المعاني، يتكلم كثيرا حتى وإن كان صامتا معظم الوقت، الفراغ بارد جدا ومخيف أيضا ليس له تعريف غير تلك الحالة التي تسكنها الروح على إثر عملية تخدير شاملة، ليست باليقظة وليست بحالة نوم، تشبه الموت أكثر من النوم، فهي تخلو من الأحلام، هي حالة معلقة لا تنتمي لأي زمان أو مكان، هي حالة انتظار لا واعية تخلو من الأمل والألم ومن كل الأحاسيس الأخرى، نفس الحالة تعيشها هذه الكلمات الخالية من كل المعاني هي حالة تتوقف بنداء و بصفعة خفيفة من الطبيب المخدر.

 

– أتسمعينني؟ (آهة ألم عميق)

– بماذا تشعرين؟
– بخير و الحمد لله..
– نِعم الجواب بُنيتي، الحمد لله..

لقد زال حجاب المخدر و انفصل عالم الغيب عن عالم الواقع، دون سابق إنذار انقطع الحبل الذي يربطها بالعالم الآخر، التفتت يُمنة ويُسرة تبحث عن المذكرة والقلم، لا أثر لها في تلك الغرفة الباردة، فقط أسلاك توصل عددا من الأجهزة بجسمها الشاحب، هل حدث كل هذا في ذلك العالم البارد الفارغ من كل شيء؟ لا تدري ولا تملك من القوة ما يكفي للتفكير، استسلمت لضعفها تحت صوت الجهاز الذي يراقب دقات قلبها وضغط دمها دون أن تعير اهتماما لحركات الشكل التي كانت ترسمها بإتقان على كلمات الحمد التي رددتها في صمت قبل أن تُفارق عالم الفراغ لِتشرق من جديد كالشمس في فجر يوم منير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.