شعار قسم مدونات

رمضان.. شاهدٌ بينَنا وبينَهم

blogs دعاء

قبل المغرب بدقائق تُعدٌّ لنا زوجتي مائدة الإفطار، وأمي تُشرفٌ عليها، وبناتي يملأنَ المكان حركة ونشاط، هذه تُحضِر الماء والتَّمر، والأُخرى تُعدٌّ لنا العصير البارد، ارتفع الآذان بالتكبير فمدَّت صغيرتي يدها إليَّ بكُوب حليبٍ وتمرات، تناولتها ودعوت "… ذهب الظمأ، وابتلت العروق…". وهنا حدَّثني أخي قائلاً: لا تنسى الدعاء للمعتقلين في سجون الانقلاب وخاصةً صديقي أحمد عابدين.

 

فقلت له: وكيف أنسى هل من خبر عنه جديد؟ فقال نعم..، كنت بالأمس القريب في زيارةٍ لوالدته أُهنِئُها برمضان، وأطمئن عليها وكذلك على أحواله، فقالت لي وهي تحبسُ دموعها: لم يسمحوا لنا بزياراتٍ استثنائية في رمضان!، ورفضوا إدخال طبقٍ من الحلوى كان قد طلبها أحمد منذ شهور!، بل حتى أنَّهم القوا بنصف الطّعام الذي قضيتُ فيه ليلي بحجة أنَّ الكمية زائدة عن المسموح!

قلت لها وأنا من أحبس دموعي هذه المرة: كيف حاله وإخوانه في رمضان؟ قالت: أرسل لكم معي رسالة. فقرأتها فإذا فيها: "إلى كلِّ إخوان شُعبتي، وزملاء مدرستي، وكذلك إلى أشبالي أبناء الحيّ، كل عام وأنتم بخير. أُحبُ أن أُخبركم أنِّي أشتاق إليكٌم كثيراً، وخاصةً في مثل تلك الليالي الرمضانية، فرمضان عندنا ليس كما هو عندكم، فعلى سبيل المثال لا الحصر.. مائدة إفطارنا خالية من التنوٌّع لا تعرف بٌروتيناً ولا فِيتميناً، فقط الأسودان التَّمر والماء، وكِسرة خُبزٍ وقطعة جٌبنٍ عند السحور، وكذلك لم نعُد نملك حرية الاختيار بين المساجد في التراويح كعهدنا السابق في رمضان، ولولا الأذان ما عرفنا الليل من النهار.

 

صار رمضان عند أغلب أُمتنا هذه الأيام _إلا من رحم الله_ مَوسِماً للتَعطُّل والتَبطُّل، حتى خلى من مردوده الإيماني على القلوب، وأصبح عنوانه الإسراف في كل شيءٍ إلا في الطاعة

نشتاقٌ والله لرمضان الذي عندكم بكل تفاصيله الرائعة، وذكرياته الجميلة، تتُوق نفُوسنا والله لجلسات العصاري في حلقات الأشبال، والتنقُّل بالزيارات في الليل بين بيوت الإخوان، ولكن هيهات هيهات.. فرمضان عندنا كسائر الأيام إلا أنَّ به إمساكٌ وصيام، نسألُ الله لنا ولكم قبول الصيام والقيام، كما آملُ أن أراكم في رمضان القادم إن شاء الله، فلا تنسونا من صالح الدعاء، ولا تيأسوا فما ضاع مع الأمل رجاء.. والسلام.

وهنا حدَّثتني نفسي قائلةً.. "أنت وغيرُك ممن أنعم الله عليهم بالسَّكينة والأمان، هل تساءلتم يوماً عند الآذان وترديد الدعاء.. ما إذا ابتلت عروق إخوانكم ساكني الزنازين في مصر أم لا؟ هل فكَّرتم يوماً كيف هو حال إخوانكم المُهجَّرين من سوريا في الشتات؟ وكيف دخل شهر رمضان على منكوبي العراق؟ ويا تُرى كيف استقبل مضطهدي بورما الأيام الأولى للشَّهر الفضيل؟ كيف تمرُّ ساعات النَّهار، ودقائق الليل، على كل مسلمٍ محاصر في غزة، يحيا رمضان بين نار مُحتلٍ غاصب ونار مُحاصرٍ خائن؟ لم أستطع الجواب على تلك الأسئلة وغيرها إلا بجواب واحد، هو أن رمضان عندنا ليس كما هو عندهم ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وكيف لا.. وقد صار رمضان عند أغلب أُمتنا هذه الأيام -إلا من رحم الله- مَوسِماً للتَعطُّل والتَبطُّل، حتى خلى من مردوده الإيماني على القلوب، وأصبح عنوانه الإسراف في كل شيءٍ إلا في الطاعة والعبادة، وقد نجح أعداءُ أمتنا في أن يتحوَّل شهر رمضان ولو تدريجياً من مَوسمٍ للرجولة والطهارة، إلى موسمٍ للعُري والخلاعة، مستهدفين في خُططهم تلك بالمقام الأول شباب أمتنا، الذي أصبح الكثير منهم -إلا من حفظ الله- إذا ما استيقظ من موته عند الغروب، قضى مٌعظم ليلته بين شاشات التلفاز والمحمول، يتنقَّل من صفحةٍ لأخرى، ومن برنامجٍ ساخر إلى آخر تافه، شغَل نفسه فيه بسفاسف الأمور، وأهتم فيه بما يُفسد القلوب، فإذا ما أذَّن الفجر، عاد مرةً أُخرى إلى قبره يغُطُّ في موتته الصغرى حتى غروب الشمس، وهكذا دواليك..!

 

حتى أصبحت تعيش أمتنا حالة من العٌزلة الشعورية البغيضة، والفُرقة المجتمعية المقيِتة، فأَفرَخت لنا جيلاً ليس كالبنيان المرصوص، وبعيداً كل البٌعد عن الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسَّهر والحمى، بل على النَّقيض تماماً، فقد شاهدتٌ بعيني مائدة إفطار لأمير منطقة بالسعودية، في أول يوم من رمضان، فيها ما لو وُزِّعَ على أهل حيٍّ من أحياء حلبٍ لأشبعهم، ولكن أنىَ له بشئون حلب وصنعاء، والموصل وعفرين، وهو الأمير بن الأمير.

يقيناً لا يدري هذا الجيل كيف دخل شهر رمضان الكريم على إخوانهم في سوريا وبلاد الشام، وقد تدهورت الأوضاع المعيشية لأهالي مٌخيم اليرموك، الذين سٌرقت ممتلكاتهم من قبل شبِّيحة الأسد الأسبوع الماضي، تزامٌناً مع إعلان الأمم المتحدة أنها ليست طرفاً في عملية الإجلاء الدائرة هناك، بالإضافة لمنع النظام القمعي لمنظمة "أطباء بلا حدود" من دخول جنوب دمشق، فضلاً عن المأساة التي يعيشها باقي اهالي المخيمات، "كحمص، وحماة، وعين التل، واللاذقية" الذين يدخُل عليهم رمضان السابع، في مخيمات اكلتها حرارة الصيف، وأهلكتها برودة الشتاء. 

أشدُّ ما يُحزنني أن اليمن السعيد لم يَسلم من القصف حتى في أول ليالي رمضان، ويكأن هذه الصواريخ المتساقطة على رؤوسنا هدية من إخواننا العرب والمسلمين
أشدُّ ما يُحزنني أن اليمن السعيد لم يَسلم من القصف حتى في أول ليالي رمضان، ويكأن هذه الصواريخ المتساقطة على رؤوسنا هدية من إخواننا العرب والمسلمين
 

وربَّما لا يعلم كذلك هذا الجيل كيف دخل شهر رمضان المبارك على إخواننا في غزة؟ فقد كان حقاً دٌخولاً مختلفاً، فما زالت رائحة دماء الشهداء على الحدود تعبق الأجواء من رفح للشٌجاعية، بالإضافة لما تَسبب فيه الحصار من فقرٍ وبطالةٍ بنسبٍ غير مسبوقة، أضف إلى ذلك ما قام به محمود عباس مؤخراً من قطعٍ للرواتب وتأخيرٍ للمستحقات، دخل شهر رمضان الكريم على أهلنا في غزة والكهرباء تأتي أربع ساعات في اليوم والليلة، أما عن حالة المشافي الطبية، أو غٌرف العمليات، أو مستودعات الأدوية، فحدِّث ولا حرج.. فهم يعملون بكفاءة تقترب من العشرين بالمائة منذ حرب غزة الأخيرة، مع حالة كسادٍ عامٍ في الأسواق فلا بيع ولا شراء، فرمضان غزة يا أخي ليس كرمضان الإمارات، حتى قال أحدهم عندما سئل عن استقبالهم لرمضان: "أن رمضان في غزة لم يأتي بعد.."

وأريد كذلك أن أُخبر بعض الشباب المُنشغلين بمنافسات دوري الأبطال، وفوز فريق الريال، وإصابة فلان، أنَّ لي صديقٌ يمنيّ هاتفته أولَ أيام رمضان لأُهنئه.. فأخبرني بأنَّ عمَّه واثنين من أبناءه قد أصابهم قصفٌ طائرات التحالف العربي بالأمس، وأخبرني أنَّ معظم بيوت أهلنا في اليمن يأتي عليها رمضان وقد فقدت العائل، أو الزوج، أو الولد، وأنَّ المساجد في صنعاء وعدن لم تَعٌد تٌقام فيها صلاة التراويح، وكذلك انتهت التجمٌّعات العائلية منذ قصف قاعة أفراح ودار للعزاء قبل شهرين، ثم بكى وقال:

 

"وأشدُّ ما يُحزنني أن اليمن السعيد لم يَسلم من القصف حتى في أول ليالي رمضان، ويكأن هذه الصواريخ المتساقطة على رؤوسنا هدية من إخواننا العرب والمسلمين". فإياك يا من تجتمع عند الإفطار بين أهلك وولدك أن تنسى الدعاء لإخوانك المستضعفين هؤلاء بأن يُبلِّغهم الله رمضان كرمضانك هذا الذي تحياه في نعمة وأمان.

وأخيراً يا كل مسلم ومسلمة يَبلٌغه مقالي هذا، اعلموا أنَّها ليست كلمات نُسلِّي بها أنفٌسنا، بقدر ما أرجوا أن تكون رسائل مُنبهةً لقلوبنا، ومُوقظةً لعقولنا، وصارخةً في ضمائرنا، ومُذكرةً بحقوق إخواننا، بأن لا ننسى قضيتهم، ولا ننشغل عن همومهم، ولا نغفل يوماً عن الدعاء لهم. ولتكن على يقين أيها الأخ الكريم، أنَّ شهر رمضان الكريم، طَرق أبوابنا جميعاً كٌلٌّ في بلده وقطره، وسيرحل عنَّا، إما شاهداً لنا أو شاهداً علينا، فالله الله في حق كل مسلم جائع، أو مطارد خائف، أو عابر سبيل غريب، فرمضان عند الله سيشهد بيننا وبينهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.