شعار قسم مدونات

المدينة كفضاء للفكر والمعرفة..

blogs مجتمع

إن المدينة كفضاء عمراني، لم تكم منعزلة عن مسار الفكر والعلم، بل إنها لطالما كانت وثيقة الصلة بالحركة العلمية فكل تجلياتها وتمظهراتها، بل إن من العلماء من عرفوا بمدنهم والحواضر التي نشأوا فيها أو التي ألفوا فيها منجزاتهم العلمية والفكرية، وكذلك هناك من المدن من عرفت بأعلام الفكر والعلم الذين مروا منها، ومن هنا يمكن أن نستحضر أسس العلائق الممكنة بين الفضاء الحضري وتبلور الثقافة وأنساق التفكير والإبداع، باستدعاء النموذج الخلدوني في نظرية العمران؛ فانتشار الثقافة ونمو العلم أشد ما يكون في نظر ابن خلدون بمسألة انتشار العمران وازدهاره، وعمران المدن والأمصار، فالإنسان مدني بطبعه، ومن ثم كان لا بد من أن يصنع مجتمعًا يجري في نطاقه التعاون على إنتاج القوت الذي يهيئ له العيش والأدوات التي تهيئ له أسباب الدفاع عن حياته، وإلا انتفى وجوده وما أراد الله من اعتمار العالم، واستخلافه فيه.

والعمران البدوي أصل العمران الحضري، ولكل من المجتمعين ألوان من العادات والسلوك وأنماط في الحياة تفرضها طبيعية كل منهما، وهي في المجتمع الحضري أكثر قابلية للتطور الذي يؤدي إلى قمة العمران ثم ما يتبع ذلك من تقلص وانحسار في أحقاب زمنية متلاحقة متكررة تكاد تكون قانونًا ثابتًا. كما يرتبط بالعمران ارتباط جدلي موضوع العلم والتعليم فهما أمران أساسيان في العمران مرتبطان به إيجابًا وسلبًا، فحيث يزدهر العمران تكاد تكون سوق العلم نافقة، فإذا لم يتوفر العلم في المجتمع صارت الرحلة في طلبه أمرًا ضروريًا، ومن ثم فحيث يزدهر العلم يرقى العمران، والعكس صحيح.

على أن ابن خلدون ألح بصفة خاصة كما يقول الدكتور محمد عابد الجابري على العواصم التي كانت تستقطب كل شيء في القرون الوسطى لكون الدولة تتخذها مركزا لها، وبما أم الدولة كانت شديدة المركزية فقد نجم عن ذلك أن تركزت مظاهر العمران في العواصم، وقد عبر ابن خلدون عن ذلك بالقول إن الدولة هي السوق الأعظم، سوق الاقتصاد وللعلم معا.

كان لكل مدينة رجالاتها ونساؤها في العلم والأدب، فكانت المدينة بمثابة الحاضنة العلمية، والحاضرة الثقافية لإنتاج المعرفة وتداولها

والأستاذ الجابري يؤكد على أن المدينة هي الفضاء الطبيعي لإنتاج المعرفة ونموها، إن نمو الحاجات البشرية وارتفاعها من الضروري إلى ما فوق الضروري في المدينة يجعل الإنتاج المعرفي والنظري؛ الأدبي والعلمي والفلسفي، ممكنا. ويكفي في هذا الصدد أن نذكر حواضر بغداد وفاس والقاهرة وقرطبة ونيسابور باعتبارها حواضر مقترنة بالعلم والثقافة تماما مثل أثينا وروما وباريس الخ. (سلسة مواقف العدد 26 ص: 88).

والمدينة قد لعبت عبر العصور أدوارا ثقافية وعلمية، فكان يتم التأريخ لبعض النماذج العلمية والفكرية والأدبية بأسماء المدن (نذكر هنا اختصارا النحو البصري النحو الكوفي)، فكان لكل مدينة رجالاتها ونساؤها في العلم والأدب، فكانت المدينة بمثابة الحاضنة العلمية، والحاضرة الثقافية لإنتاج المعرفة وتداولها.

واستحضار هذه المعطيات في علاقة المدينة بالفكر، ليس من باب الترف الفكري وإنما من باب التفكر الجماعي والنقاش العقلاني في خلق علاقة وصل بين الماضي والحاضر، وصل بين مدينة الفكر والعلم قديما، ومدينة العولمة حديثا، المدينة في العصر الحديث التي يبدو أنها فقدت البوصلة فما هي حاضرة لإنتاج العلم وتداول المعرفة، ولا هي بالفضاء العمراني الذي يحفظ للشعوب ذاكرتها وحضارتها ويعكس جماليتها، كما أنها انسحبت من أداء أدوارها التربوية كما انسحبت من ذلك مجموعة من مؤسسات المجتمع، من هنا يبرز سؤال كيف يمكن أن تسترجع المدينة أدوارها الاستراتيجية في النهوض بوظيفة العلم والمعرفة والفكر كما كانت عبر عصور ازدهار الحضارة الإسلامية؟ وكيف يمكن أن تساهم من موقعها في توجيه الفعل التربوي للناشئة؟

من هنا تحضر فكرة إطلالة فكرية وجمالية على الحواضر العلمية في سلسة نتوقف فيها مع بعض الحواضر العلمية، في المقبل من التدوينات إن شاء الله، نطل من خلالها مع بعض مظاهر العلم والثقافة والمعرفة، باستحضار بعض أعلام الفكر بين الفينة والأخرى، وكذلك محاولة كشف الحجب عن بعض مظاهر الجمال العمراني والموسيقي الذي شهدته هذه الحواضر العلمية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.