شعار قسم مدونات

إنّهُ ربّي أَحْسَنَ مَثْواي

blogs عبادة

كان ينظر إلى طفله الصّغير بحبّ، يتأمل ملامحه الرّقيقة البريئة، وكلّه حزن على عقدة النّقص التي سيواجهها صغيره هذا عندما يكبر، فهو عاجزٌ مع الأسف على توفير أقلّ متطلّبات الحياة التي يحتاجها هذا الابن. يسكنون في بيت صغير جدًّا في حيّ يعتبر من أفقر أحياء المدينة، أثاثٌ مهترئٌ ومتآكل كان قد مرّ على عشرة أسرٍ أو يزيد قبل أن يستقرّ في بيتهم، غرفة نوم واحدة ومطبخ صغير وسقف متهالك، بيتٌ قائم على أقل مقوّمات الحياة الماديّة القريبة إلى العدم تقريبًا، والكثير من المشاعر الصادقة والحبّ الطاهر، ربّما هما من أبقيا هذا المنزل قائمًا حتى هذه اللحظة.

له صديقٌ كان رفيقه أيّام دراسته الجامعية، خرجا معًا من نفس البيئة الفقيرة المعدمة، صديقه تخرّج من الجامعة وآثر الانسحاب من بيئتهما تلك، بطريقة لم تكن مقبولة للجميع، لم يهتمّ، فقد وصل لغايته وكان مبدأه: "الغاية تبرّر الوسيلة". عرض الصديق هذا على بطل قصّتنا أن يشاركه في تجارته الرابحة تلك، فقد كان يتاجر في بيع الممنوعات وغيرها من الأشياء التي يهرّبها بطرق وحيَل عن حدود دولتهم، يشتريها بثمن بخس ثمّ يبيعها بمئات الدّنانير مستغلًا ندرة هذه البضائع وحاجة الناس إليها. انتشلته بضائعه من كل الفقر الذي كان مطبقًا عليه وصار بسببها من أغنى رجال المدينة.

كان بطل قصّتنا يعاين كلّ هذه المعطيات بقلق، والضجيج في رأسه يكاد يخترق دماغه ويسمع من حوله، تساؤل وحيرة وقلق وقرينٌ يشجّعه على خوض هذه المجازفة ودخول هذا الدّرب، مغريًا إيّاه بوضع صديقه وحاله. يقتنع شيئًا فشيئًا ويكاد بأنّ يهمّ بقبول العرض، فتظهر نفسه الطّاهرة الآمرة بالخير كالمنقذ وتمنعه مردّدة "مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ".

الله تعالى يعلم دموعنا ويشعر بها، يعلم ما يسكن قلبنا الصّغير فهو خالقه، يعلم ما يفرحه وما يحزنه، يعلم سبب تسارع نبضاته والسّبيل إلى طمأنينته
الله تعالى يعلم دموعنا ويشعر بها، يعلم ما يسكن قلبنا الصّغير فهو خالقه، يعلم ما يفرحه وما يحزنه، يعلم سبب تسارع نبضاته والسّبيل إلى طمأنينته
 

كلّ واحدٍ منّا يعيش هذا الصّراع، كلٌّ على طريقته، كلّنا وُضِعنا مرّة في حيرة أن نختار بين ما نحبّ وبين ما يرضي الله عزّ وجلّ. قد يكون نوال مرادنا سهلا بالطرق التي لا ترضي الله عزّ وجلّ لكن فلنتذكر دائمًا أنّ الوهّاب هو نفسه المانع، وأنّه ليس من المنطق ولا من الأدب مع الله عزّ وجلّ أن نشكره بعصيانه وأن نردّ جميل فضائله علينا بأشياء تغضبه.

الله تعالى يعلم دموعنا ويشعر بها، يعلم ما يسكن قلبنا الصّغير فهو خالقه، يعلم ما يفرحه وما يحزنه، يعلم سبب تسارع نبضاته والسّبيل إلى طمأنينته، ويشعر بأمنيتنا التي تشغل خاطرنا، يعلم هو كم نتمناها ونرجو تحقيقها، يعلم أيضًا أنّنا نرى نعيم الدّنيا بها ونرى بؤسنا وحزننا ببعدنا عنها، لذلك لو تيقنّا بهذا سنؤثر أن نظلّ مع الرّحيم ولا نغضبه، لأننا مؤمنون بكرمه وبصدق وعده فلن يكون عاقبة صبرنا هذا إلا نوالا لمرادنا ومبتغانا، ولن يكون بعد هذا الجهاد كلّه إلا جمع الغنائم التي كثيرًا ما حلمنا بها ورسمنا لها ألف تصوّر في مخيلتنا.

فهو يصغي إلى صوتنا ونحن نطلبها منه ونلّح عليه في الدعاء، فيشفق على قلوبنا ويرزقها أمنياتها التي جهّزها لنا بطريقة أرّق مما نتمنّى. قد يكون الحرمان فقط ليطّهر قلوبنا فنصل إلى الله أنقياء سليمين من كلّ أمراض الدّنيا. لذلك فليردد قلبك دائمًا أن: "من ترك شيئًا لله أبدله الله خيرًا منه" ولتواجه كلّ أبواب الشيطان ب "مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ" ولتتذكر وصية حبيبنا صلى الله عليه وسلّم لابن عبّاس رضيّ الله عنهما عندما وجّهه وقال: (يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.