شعار قسم مدونات

بين العادة والعبادة.. رؤية لغوية اجتماعية

blogs قرآن
بإطلالة مركزة على لغة الخطاب القرآني، نجدها قد عبرت بدقة عن سياقات اجتماعية محددة، بما يعني ذلك، التعبير عن أحوال مجتمعات عديدة ترددت أصداء قضاياها، وعاداتها، وأشكال أنشطتها الاجتماعية في أداة التواصل اللغوية القرآنية. وهنا تأتي الحاجة للبحث في قرائن السياق اللساني الاجتماعي المُبرَّر لغويا، لوضع اليد على مدلول الخطاب التربوي القرآني العميق.
 
وعلى هذا الضوء يمكن قراءةُ إيلافِ عَرَبِ قريش، ودأبهم القديم في رحلة الشتاء والصيف في سياق قول الله تعالى: "لإيلافِ قُرَيْشٍ إيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ والصَّيْفِ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ"، (سورة قريش). فماذا في هذا الإلف الاجتماعي الحميد من مواقع الحكمة، ومضرب المثل في السياق القرآني؟
  
وفي هذا الشأن، بإمكاننا أن نفترض بخصوص هذه السورة الكريمة أنها تحتوي على تركيبين أساسيين: أحدهما أصل الكلام وبُؤرته، ونجده في قوله تعالى: "فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ". والثاني فرع خادم لهذا الأصل ومُوجب للإقناع به، وهو قوله عز وجل: "لإيلافِ قُرَيْشٍ إيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ والصَّيْفِ". وقد اختار الخطاب القرآني الكريم التمهيد بالفرع بدلا عن الأصل، كما يبدو.
 

ولهذا الترتيب في البيان اللغوي الذي اختاره القرآن الكريم قيمته ودلالته في السياق. حيث يرتبط بالحال الذي عليه المخاطَب في مألوفاته، وعاداته الحياتية والاجتماعية التي تُعَدُّ لديه مسألة حياة أو موت. لقد خاطب القرآن الكريم الناس في المجتمع العربي بأكثر الأمور اهتماما وعناية في حياتهم، بل بأكثرها قيمة في عوائدهم التي لا يغادرونها، كائنا ما كانت الظروف، وهي السفر شتاء وصيفا من أجل المال والكسب المادي، والضرب في الأرض لتأمين الغَذاء، والبحث المُلِح عن الرزق، وكفاية الحاجات الاجتماعية، والنفسية، والفسيولوجية.

 

قراءة الآيتين الكريمتين بالترتيب الأسلوبي الذي جاءتا به في سورة قريش، تفيد حكمة بالغة في التلطف بالناس في دعوتهم إلى الخير، بالانطلاق من مقتضى حالهم

وإذا أضفنا إلى ما سبق، عنصرَ التكرار المنفصل لِلَفظةِ "الإيلاف" الذي يقوي معنى الانشداد الواضح للقوم في إِلْفِهِمْ لرحلة الشتاء والصيف، تبين لنا، بالملموس والواضح، مضربَ المثل، وموقع العبارة في الدلالة على معنى أراده المنعم عز وجل، ذلك أنه: "لم ينزل الله شيئا من القرآن إلا لينفعَ به عباده، ويدل به على معنى أراده"، بتعبير ابن قتيبة الدَّينَوري رحمه الله في كتابه (تأويل مشكل القرآن، ص. 98).

 
فالمعنى -والله أعلم- فكما ألفتم الصيفَ والشتاء قِبلة للرحلة والسفر، والبحث عن الكسب، وكما اعتدتم هذين الفصلين زمنا لتأمين القوت وتحصيله، تَآلفُوا دائبِين، ملازمين -دون فتور- عبادةَ ربِّ البيت أولى الحرمين وثاني القبلتين. والعبارة القرآنية في السياق أيضا تؤدي معنى التشبيه، أي مِثلَ دأبنا في الصيف للرحلة والسفر كسبا أو استجماما ورفاها، وكذلك مثل دأبِ الذين من قبلنا قومِ قريش في السعي الدائب دُروجا على الكسب في رحلاتهم الشتوية والصيفية، ادْأَبُوا سيرا وسفرا قاصدا في طريق الله تعالى.
 
العبرة إذن، أن يرحل المرء عن طبعه وعوائده في رحلة "إنِّي ذاهبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ" (الصافات الآية 99). أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما في الآية الكريمة: "لإيلافِ قُرَيْشٍ إيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ والصَّيْفِ"، قال: أُمرُوا أن يألفوا عبادةَ ربِّ هذا البيت كإلفهم رحلة الشتاء والصيف (فتح القدير، الشوكاني). العبرة -وهذا جهد المُقل- أن تجرى الأمور في العبادات مجرى العناية والاهتمام بالعادات. فعلى الأقل أن يكون الحال كالحال، والوضع كالوضع، في الحرص والاستعداد والمُضي إلى آخر الأشواط، كما درجنا في عاداتنا، وما ألفناه في معاشنا، بحيث نصير منجزين لها من غير جهد، ولربما من غير نَصَب أو تعب، كما هو معلوم لدى الناس فيما يدأبون ويألفون.
  
الخلاصة، أن قراءة الآيتين الكريمتين بالترتيب الأسلوبي الذي جاءتا به في سورة قريش، تفيد حكمة بالغة في التلطف بالناس في دعوتهم إلى الخير، بالانطلاق من مقتضى حالهم، وعوائدهم وحاجاتهم الاجتماعية المعيشة، حتى يتفطن منهم عاقل، ويستيقظ وسنان، ويمشي على جادة الخير معترف بالجميل، وكما قيل: أعطيتني فأحسنت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.