شعار قسم مدونات

الأبعاد النفسيّة لدجاج الوطنية

blogs عمرو خالد
كلّ ما تحتاجُهُ حتىّ يكونَ "التقاءك بِربّنا بعد الفطار والتّراويح أحلى" هوَ صكُّ غفرانٍ موقّعٌ من عمرو خالد على شكلِ دجاجة الوطنيّة، وإنْ كانت صكوكُ الغفرانِ الّتي أنشأَتْها الكنيسةُ الكاثوليكيّةُ في العصورِ الوسطى على شكلِ وثائقَ، تُباع للناسِ تكفيراً عن ذنوبِهم، وتختلفُ قيمةُ الصّكِ بمقدارِ ذنوبِ الفرد، أكاد أُجزمُ لو كانَ إعلانُ عمرو خالد في العشرِ الأواخرِ من رمضان لقالَ بما معناه "لو تناولتَ دجاجَ الوطنيّةّ طوالَ العشرِ الأواخرِ، سيأتي العيدُ وتشعرُ أنّكَ منَ المبشّرينَ بالجنّةِ!".

السؤالُ الّذي لابدَّ أنْ يتبادرَ إلى أذهانِنَا، لماذا جاءَ إعلانُ عمرو خالد الرّوحانِيُّ متزامناً مع بدايةِ رمضان؟! هناكَ استراتيجيّةٌ تسويقيةٌ ناجحةٌ، تستخدِمُها الشّركاتُ الكبرى تُسمّى" celebrity marketing" تسويقُ المشاهيرِ، حيثُ تستخدمُ الشّركاتُ المشاهيرَ من ممثلينَ ولاعبينَ لترويجِ منتجاتِها، ومنَ الأمثلةِ عليها ما قامَت بهِ شركتا "بيبسي" و"كوكا كولا" منَ استخدام للاعبينَ أمثالِ رونالدو وميسي ورونالدينو في إعلاناتِها أو طباعةِ صُوَرِهم على عُبواتِ المشروباتِ الغازيّةِ. هذهِ الاستراتيجيّةُ التسويقيّةُ تملكُ أبعاداً نفسيةً على المستهلكِ باستهدافِ فئةِ الشّبابِ عن طريقِ ربطِ صورةِ اللّاعبِ المفضّلِ لديهم بمنتجاتِها، فترسّخُها بعقولِهم؛ ممّا يحفِّزُ لدى المستهلكِ رغبةً في المنتجِ مدعومةً بمشاعر إعجابٍ بهذا اللاّعب.

وفي مرحلةٍ متطوّرةٍ من هذهِ الاستراتيجية تُستبدلُ المشاهيرُ، بفكرةٍ أو عقيدةٍ لاستهدافِ فئاتٍ أوسَعَ منَ المجتمع (أطفالاً وشيوخاً ونساءً وشباباً ورجالاً) لضمانِ مجالٍ أكبرَ من انتشارِ السّيطَرةِ النفسيّةِ على العقول. ويطلقُ على تشكيلِ القوالبِ الرّبطيّةِ في علمِ النّفسِ بما يُسمّى الصّورَ الذّهنيّة وهيَ عبارةٌ عن تشكيلِ وصلةٍ تربطُ بينَ شيئين (فرداً جماعةً دينًا رأياً مذهباً) حيثُ تشيرُ هذهِ الوصلةُ إلى مدلولٍ منَ الشّيئينِ معاً، ما أنْ يستحضِرُ الذّهنُ أحدَهما حتى يلمعُ الآخرَ أيضاً، ولعلَّ أخطرَ ما في الأمرِ عدمُ قدرةِ العقلِ على إصدارِ حكمٍ على أحدِهِما بمعزلٍ عن الآخر.

ولا تنفكُّ هذه الصّورُ الذّهنيّةُ أن تتحوّلَ إلى صورةٍ نمطيّةٍ، تتوارثُها الأجيال، كما فعلَ هتلر حينما زرعَ صورةَ العنصريّةِ الذّهنيةِ الّتي ترتكزُ على عدمِ المساواةِ بينَ الأعرافِ من حيثِ النّقاءِ والدّونيّةِ ليشكّلَ بعدَها صورةً نمطيّةً مفادُها النّقاءُ العرقيُّ للعنصرِ الجرمانيِّ الّتي ما زالت جذورُها ضاربةٌ في الشّعبِ الألمانيّ.

ويطلُّ علينا عمرو خالد مستغلًّا مكانَتَهُ كَداعيةٍ إسلاميٍّ، ينطقُ باسمِ الدّين، في بدايةِ شهرِ رمضان شهر الرّحمةِ والغفران، الّذي يحتلُّ مكانةً كبيرةً في قلوبِ المسلمينَ، لِمَ فيهِ منَ التّقرّبِ إلى اللهِ وترويضِ النّفسِ وتهذيبِها، بمشهدٍ إعلانيٍّ أشبهُ ما يكونُ بشعوذةٍ إعلاميّةٍ، صُبِغَ بها التّقرّبُ إلى اللهِ وزيادةُ الرّوحانيّاتِ بشراءِ دجاجِ الوطنيّةِ. إنّهُ لأمرٌ خطيرٌ وإن ظهرنا على شبكات التّواصلِ الاجتماعيِّ نستهزأُ بهذه السّخافةِ بما فيها من متجارةٍ بالدّين، فنحنُ لا نستطيعُ إلغاءَ الوصلةِ النّفسيّةِ-الصّورةِ الذهنيّةِ- الّتي رَبَطَها في عقولِنا بينَ دجاجةِ الوطنيّةِ البيضاء وبينَ الرّوحانيّات، وكلّما تكررَ هذا الإعلانُ على الشّاشاتِ كلّما تقوّت هذهِ الوصلة.

فالمواطنُ العربيُّ البسيطُ الّذي كررّت عليهِ زوجَتُهُ أن لا ينسى شراء الدّجاجِ كما كلِّ مرةٍ، سيقفُ أمام ثلّاجةِ الدّجاجِ في السّوقِ ليجدَ منتجينِ للدّجاجِ أحدُهُما دجاجُ الوطنيّةُ والآخرُ من شركةٍ أخرى وكلاهُما بنفسِ السّعرِ، سينشأُ داخلَهُ صراعُ تحديدِ أيُّ منتجٍ يشتري، لينتهي بهِ المطافُ بشراءِ ثلاث دجاجاتٍ من شركةِ الوطنيّةِ، وإن كانَ قد استهزأَ بالإعلانِ أمس، فسطوةُ الحاجةِ للالتقاءِ والرّاحةِ الرّوحيّةِ ستعملُ عملَها في التّأثيرِ على قرارِهِ دونَ وعيٍ بعدَما تشكّلَ بذهنِهِ وصلةٌ بينَ زيادة الرّوحانيّةِ بدجاجِ الوطنيّةِ، وهكذا سيتزايدُ مستوى مبيعاتِ شركةِ الوطنيّةِ لا محالةَ في رمضانَ وغيرِهِ، فالحاجةُ الرّوحيّةُ حاضرةٌ طوالَ الوقتِ وإنْ كانت تزدادُ في رمضان.

ويعود ُعمرو خالد بعدَها بأيّامٍ في فيديو آخر أشبهُ ما يكونُ "اعتذار ملغوم" يبدأُهُ بقولِهِ "أنا آسف أنا خاني التّعبير"، ثمَّ يشيرُ إلى أنّهُ لن يعطيَ مبرّراتٍ ويصدِمُنا بذاتِ اللّحظةِ بمبرّرِهِ الملغوم "الشركة دي وقف خيري" وهذا ترويجٌ آخرٌ بتحويلِ صورةِ الشّركةِ الوطنيّةِ من بوابةٍ للرّوحانيّات إلى وقفٍ خيريٍّ يستفيدُ منهُ الفقراءُ والمساكين. ثمَّ ينهي اعتذاره باسترقاقِ القلوبِ حيثُ ردّدَ دعاءَ النّبيِّ محمّدٍ عليهِ الصّلاةُ والسّلام، حينما اشتدَّ عليهِ البلاءُ في دعوةِ الطائفِ، فقال "اللهمَّ أشكوا إليكَ ضعفي وقلّةَ حيلتي وهواني على النّاس!".

وإنَّ ما قام بهِ مارتن لوثر في ثورتِهِ على الكنيسة الكاثوليكيّةِ وصكوكِ الغفرانِ حينما نشرَ فكرةَ رفضِهِ للسّلطةِ الباباويّةِ الّتي كانت تبيعُ صكوكَ الغفرانِ للمسيحيّينَ باعتبارِها الوسيلةُ الوحيدةُ لمسحِ الخطايا. فإنَّ ما نحتاجُهُ اليومَ هوَ ثورةٌ فكريّةٌ على عولمةِ الدّينِ وإسقاطُ ظاهِرة تقديسِ العِمامات وتنحيتهم عن الدرجة التي رفعهم إليها ابن تيمية وسمّاهم "المُوقّعون عن الله" قبلَ أن يجتمعَ أحدُنا وعائلتُهُ على سفرةِ طعامٍ بورِكَ دجاجُها من عمرو خالد وأرزّها من العريفي وخبزُها منَ الشّيخِ الفلانيِّ، سفرةٌ أقربُ وصفٍ لها "سفرةٌ روحانيّةٌ بمباركةِ العمامات".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.