شعار قسم مدونات

كيف حولت التكنولوجيا عالمنا الواقعي؟

blogs أجهزة الكترونية

أضفت التكنولوجيا على واقعنا المعاش رونقا مزيفا بالحلي عند الكثير منا، ودمامة من أولها عند القليل منا، فما فتئت أن كانت بلسما لجروح قلوبنا المفتورة من الفراغ، ومضيعة لأغلب أوقاتنا المأخوذة من العمل، فإذ بالممارس يجد نفسه بين مطرقة وسندان، أبه يدع الكومبيوتر والهاتف وما شابه، أم به أن يرضخ لتغيرات عصره، ويطبق مقولة "لكل زمن زمن".

نفهم التكنولوجيا، ونظن أننا نملكها، نحتويها ونستهويها، وغفلنا أن لها مغزى أدهى وأمر، وأنها هي من تملكنا تحتوينا وتستهوينا. في صبانا كنا نجتمع نفرا نفر عند بيت الجدة، أو بيتنا ذاته، كان الكل يخاطب الكل، لا هذر ولا هذيان، الجميع يصغي، ينصت ويسمع، فتبدأ الجدة بسرد ما عاشه شبابها حرفا بحرف، ثم ليقطع حديثها الجد، ويوبخها تارة ثم ينوهها تارة أخرى، ومعشر الأولاد والأحفاد يقهقهون، بالمحاذة من مائدة صيفية بسيطة يملئها الشاي والخبز المجمر والسردين المشوي أحيانا، كأنه عيدا من الأعياد.

تمردت التكنولوجيا علينا اعتقادا منا أننا المتمردين عليها، حبست أنفسنا عن واقعنا، ورفعت رقابنا إلى عالم افتراضي لا وجود له

حل الهاتف وأخذ منا كلام الجدة، توبيخ وتنويه الجد، وحتى قهقهة الأولاد والأحفاد، كل شيء راح واختفى، لا تجمعات عائلية، لا صلة رحم، لا مائدة صيفية لا سردين مشوي، لم يعد شيئا كما كان عليه، وسط المنزل أو ما يعرف بالصالون خالي لا أحد فيه، جل ما في الأمر أن الجميع منشغل في عوالم الأنترنت من مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع المشاهدات، كل عاد يتصرف على حسب شاكلته، على حسب ما تستهويه عليه نفسيته، وعلى حسب ما شهدته عينيه وراء الشاشة الصغيرة من أفلام ومسلسلات، حتى أن زمن التلفاز من التكنولوجيا مضى، وزمن الهاتف ولى.

أخذت الدراسة تروح مجرى الرياح والأخلاق مجرى السحاب، لا تربية من الأباء، ولا إصغاء من الأبناء، فلما لا والإثنين باتت التكنولوجيا عالقة أذهانهم وغارسة صدورهم، مكالمات، تواصلات وأحاديث كلها وراء الشاشات الصغيرة، لا الأفواه تتحدث ولا الأذن تسمع، غير النطاق غير المباشر يعمل.

اعتقدنا أننا تطورنا باللواحات الإلكترونية والهواتف المحمولة، وظننا أننا استخدمنا وسائل التكنولوجيا لصالحنا، إذ أن الظاهر في الأمر أن عكس هذا يحدث، هي من تستخدمنا لصالحها، لصالح ترويج آخر ماركاتها، ومن أجل تحقيق عدد أكبر من المبيعات لشركاتها.

سكنت الشاشة الصغيرة كياننا، حتى وأن التخلص منها بات مستحيلا كوحش كاسر طغى وجداننا، لم نعد نقوى الاستغناء عنها، لم نعد نقوى الالتقاء فيما بيننا إلا بها، وحين التقائنا تلازمنا كل وقتنا، تناقضا كبيرا نعيشه في حرب نفسية باردة داخل عقولنا وأفئدتنا، فما استطعنا أن نسلك طريقا دونها، وما استطعنا إدراك قيمتها وقت الحاجة، واستخدامها في هذه الحاجة فقط، لا نعرف الوسطية في الأشياء، وجعل الشيء في المنحى الإيجابي لا غير.

تنتعش صدورنا بمجرد سماع رنة مكالمة أو رسالة، ونهرول صوب الحديث بدردشات تزيد عن ألاف الرسائل، في حين أن للرد على شخص نادانا لوهلة، نتعاكس ونتخامل
تنتعش صدورنا بمجرد سماع رنة مكالمة أو رسالة، ونهرول صوب الحديث بدردشات تزيد عن ألاف الرسائل، في حين أن للرد على شخص نادانا لوهلة، نتعاكس ونتخامل
 

تمردت علينا اعتقادا منا أننا المتمردين عليها، حبست أنفسنا عن واقعنا، ورفعت رقابنا إلى عالم افتراضي لا وجود له، أصبح المريض يشكو مرضه في مواقع التواصل الاجتماعي عبر منشورات مكتوب فيها مريض او "Malade" بالفرنسية، لأجل كسب إعجابات تفوق المئة، ولأجل تعاليق مكتوبة فيها شفاؤك أو بالشفاء العاجل، وكأن الشكاية والشفاء يكونان على يد عبد ولا على يد معبود. وأصبح الحزين والمهموم ملاذه العالم الأزرق والمنشورات الدالة على ذلك، وكذا المخطوب والمتزوج، والأرمل والمطلق و… فكل شيء ينشر على عامة الناس، فليس لخروج مع صديق أو صديقة أو حبيب أو حبيبة أو خطيب أو خطيبة أو زوج أو زوجة… إلا منشورات تدل عن ذلك في العالم الأزرق وانتظار الإعجابات وتعاليق المباركة والمجاملة.

تنتعش صدورنا بمجرد سماع رنة مكالمة أو رسالة، ونهرول صوب الحديث والأخذ بالكلام في دردشات تزيد عن ألاف الرسائل، في حين أن للرد على شخص نادانا لوهلة، نتعاكس ونتخامل ونرمي اللوم على بعضنا الآخر، وصارت أخبار النجوم والمشاهير تهمنا وتلفت انتباهنا أكثر من بعضنا البعض، بل أننا نود معرفة كل صغيرة وكبيرة تخصهم، كأنهم يعيشوننا ويعيشونا بمقربة منا، ونسينا أن التكنولوجيا في وقت فراغ هي من جمعتنا بهم.

نتتبع آخر صيحات الهواتف الذكية، ونعدها بأرقام، فهاتفك X6 وهاتف فلان X7، ونتوق شوقا للحصول على آخر شاشة صغيرة، أصدرتها أرقى الشركات، فنزيد ألاف الدراهم والدولارات على هواتف سابقت هاتفنا لتتبع ما يسمى بالموضة، ونعلم يقينا أن لا اختلاف بينه وبين سابقه غير الشكل والرقم المتزايد الذي كان 6 أو 7 أو 8 والآن أصبح 9.

سنعود، يقتضي علينا في ذات يوم في آجله أو عاجله أن نعود إلى واقعنا، إلى ربنا، إلى منازلنا وإلى أنفسنا، إلينا نحن، هكذا نكون في أسمى خصالنا لا محالة. نتريث ولربما الحيز الذي أخذ منا، والذي سطت فيه التكنولوجيا علينا، يكون بمثابة تجربة فعالة لاستقبال ما ستقدمه هذه الأخيرة في قبيل الأيام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.