شعار قسم مدونات

بائع المناديل البيضاء.. عندما غيَّر عندي مفهوم الرضا

blogs بائع المناديل

في يوم من أيام الشتاء البارد، وبينما كنت أتمشى في شوارع المدينة محاولة نسيان جميع أحزاني وهمومي التي غدت تكبر في عقلي يوما بعد يوم، وكأن المشي كلما جعلني أخطو مسافة تبعدني عن محطة الانطلاق، كلما جعلني أخطو مسافة تقربني من محطة النسيان. وأنا في طريق المشي الذي أتجرعه كلما اسودت الدنيا في وجهي، وجدت مقعدا فارغا على الشارع يطل على حركة الناس، الكل يجري مع الزمن، وكأن الحياة أصبحت عبارة عن ساحة سباق يتسابق عليها الجميع نحو هدف مجهول. جلست على ذلك المقعد، وشرعت في تأمل حركة الناس عسى أن ينقص ذبك من حدو العاصفة التي تتحرك داخلي، كنت أحس أنني إنسانة عاجزة أمام كل الحواجز والضغوطات التي تجبرك عليها الحياة، والتي تكبلني داخل سجن من الأفكار السوداء تمنعني من التنفس بحرية.

فجأة، ظهر أمامي شاب في الثلاثينات من عمره، يحمل في يد مناديل بيضاء للبيع، وفي اليد الأخرى عصا طويلة يضعها أمامه كلما أراد التحرك، كان الشاب أعمى، وكانت تلك العصا دليل طريقه الوحيد، وتلك المناديل مصدر قوته الوحيدة! وقف أمامي لساعات، لم يتفوه بأي كلمة منذ أن جاء، لم يكن يترجى الناس ويستغل فقدان بصره لربح شفقتهم ومالهم، ظل طوال الوقت جامدا كصنم، صامتا يحاول أن يسمع بأذنه ما لم يستطع رؤيته بعينيه.

جلست أراقبه لوقت طويل، دون أن يحس بثقل نظراتي عليه، كان هشا يتحدى قساوة الشتاء والحياة معا كي يتشبث بحقه في العيش، كانت تلك المناديل مصدر رزقه واليد التي تمسح دموعه في أصعب أوقاته. لم يستسلم هذا الشاب لعلته وصعوبة ظروفه، فقد بصره، لكنه لم يفقد إرادته واعتماده على نفسه، لم يتخلى عن رجولته وكرامته، ولم يترك الفرصة للصعوبات لتنال من قوته وعزيمته.

هذه الفتاة التي تتمتع بصحة جيدة، لا تعاني من فقر أو جوع أو عطش، تعرف أنها ستعود للمنزل لتجد فراشا دافئا وأكلا لذيذا، تستسلم لأول ريح تعصفها الحياة في وجهها، فماذا تركت لهذا الشاب كي يفعله؟

أثناء لحظات تأملي تلك، احتقرت نفسي بشدة، شعرت برغبة في البكاء تجتاحني فجأة، رأيت كيف لشاب فقد العينين اللتين نرى بهما نور الحياة، أن يقف بشجاعة أمام قساوة الحياة، ألا يضيع الوقت في التذمر والشكوى رغم صعوبة ما يمر به، ويتشبث بحقه في العيش بكرامة! هذا الشاب لا يرى سوى الظلام بعينيه، لا بقلبه، بينما أنا كنت جالسة بعينين سالمتين، لكنني كنت أرى الظلام حولي بقلبي! احتقرت نفسي بشدة أثناء رؤيتي لذلك الشاب، فقد تركت للحياة فرصة لتحطمني وتشل أفكاري بأحداث صغيرة لا تسوى شيئا أمام ما يمكن أن يعايشه هذا الشاب، انشغلت بمشاكل تافهة وأعطيتها أكثر من حجمها وخولت لها القدرة على التحكم في نظرتي للحياة والمستقبل.

فإن كنت أنا، هذه الفتاة التي تتمتع بصحة جيدة، لا تعاني من فقر أو جوع أو عطش، تعرف أنها ستعود للمنزل لتجد فراشا دافئا وأكلا لذيذا، تستسلم لأول ريح تعصفها الحياة في وجهها، فماذا تركت لهذا الشاب كي يفعله؟ هو من فقد عينيه وغدا لا يرى سوى الظلام صباح مساء؟ هو من يخرج غير متأكدا من كونه سيحظى على لقمة عيشه أم لا؟ فقد علمني هذا الشاب معنى الصبر، معنى التفاؤل والتشبث بالحياة مهما كان حجم الحواجز التي تعترضك، علمني أن الظلام يرى بالقلب، لا بالعينين.. غادرت المكان وبداخلي مشاعر مختلطة لا أستطيع تفسيرها، شيء من الراحة والحزن والاشمئزاز والأمل، وقررت أن أزيل تلك الغمامة التي غطت على النور الذي بدأ يتسلل شيئا فشيئا من نافذة قلبي، وأمد الله تعالى على نعمه التي لا تعد ولا تحصى.

ابتسمت لذلك الشاب رغم أنه لم يرني، لكنني متأكدة أنه أحس بالراحة التي جعلني أحس بها بقلبه! فما علمني هذا الشاب، لم تعلمه لي لا الكتب، ولا أقوال الناس ونصائحهم، ما علمه لي يرى بالجوارح ولا تستطيع أي يد لمسه.. دمت سالما وقويا يا بائع المناديل البيضاء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.