شعار قسم مدونات

مدخل لفهم فلسفة الصيام!

blogs الصيام

العبادة في شهر رمضان عبادة فيها عناء ومشقة وإرهاق للنفس، واسم الشهر نفسه مشتق من الرمضاء الساخنة الملتهبة. إنه عبادة عسكرية في الأساس تروَّضُ فيها النفوس الكسولة، ويتغلب فيها المرء على النفوس المتطلِّبة، وعلى النفوس التي اعتادت السهولة والنمطية.

 

إن قوة الصوم هو بتفعيل إرادة الانتصار وكسب المعركة بالتمرين الشاق ومغالبة الصعاب… وتحصل البهجة والراحة بالإنجاز في قهر النفس وقمع شهوتها وكسر نمطيتها والإصرار على فعل ما يعاكس رغباتها. ولأن النفس صعبة المراس قوية التمّكن في صاحبها فهي تحتاج لمعركة طويلة ومتجددة، في النهار بالإمساك عن المفطرات وفي الليل بالاجتهاد في الطاعات، وتستمر شهراً في كل عام، وتتجدد المعركة في كل عام حتى ترتاض النفس بتلك الرياضة البدنية والروحية وتتهذب على مدار السنين المتتابعة.

 

وبعضهم ممن أدمن بعض العادات يرى في رمضان تعذيباً، وهذا توصيف صحيح نسبياً لأن نفوسهم قوية متمكّنة بالعادة؛ وسلاح الحرمان في رمضان يذبح العادة لساعات ممتدة قبل أن يتركها حيّة قادرة على معالجة جراحها لتستأنف بعض قوتها مع بقاء الإصابة فيها ليعود القتال في اليوم التالي حتى تنهزم العادة لمن أراد ذلك. وهذا النوع من العبادة بالحرمان من أرقى العبادات الروحية التي تعالت على شهوات الجسد، فتصبح روح مَن نجح في إدارتها قوية شفافة طائرة متجردة من القيود الأرضية فتسمو وترقى في معارج عالية.

 

والقيمة في النجاح أن تجد تعويضاً سامياً وأثراً حقيقياً في روحك نتيجة الترك والحرمان (لعلكم تتقون)، وإلا فإنك تخوض حرباً لأجل الحرب، عليك أن تخوضها لعلك تنجح في إدارتها في الفرص القريبة القادمة. ومن هنا يمكن أن نفهم معنى تصفيد الشياطين في رمضان، يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفّدت الشياطين» أخرجه البخاري ومسلم.

 

وسوسة الشيطان تزيين وإغواء وليست سيطرة على المرء، فالإنسان يملك الخيار دائماً، فإذا تركّبتْ نفسه على الشر ومال طبعُه إلى الفساد فهذا ميل نفسي لا علاقة للشيطان فيه

يأتي هنا سؤال حول معنى تصفيد الشياطين في رمضان مع ملاحظتنا لوجود الشر في أفعال الناس في هذا الشهر يقلّ حيناً أو يكثر حيناً، وقد قرأتُ كلام العلماء فيه ومعظمها يستند إلى كلام القاضي عياض أو كلام القرطبي وقلّ أن تجد لغيرهما كلاماً يخرج عنهما، وكلامهما عامّ لا يفسّر القضية، وبالتأمل في الحديث يمكننا أن نصل لهذه النتائج، وهي من بركات التدبر في هذا الشهر المبارك:

* تصفيد الشياطين لا يعني امتناع تصرف الشياطين ونشاطها، وإنما يعني قهرها وتقليل قدرتها على التأثير المباشر من خلال كسر الشهوات الكبرى في رمضان بالامتناع عن المفطرات كافة، فالمصفّد المقيّد بالسلاسل يمكنه الحركة المحدودة والكلام وإبداء الرأي، وهذا قد يكون أخطر من المباشرة بالفعل.

 

* موارد الشر لدى الإنسان متعددة ومنها هذه الشياطين، ولكن الموارد الأخرى ما تزال نشطة كالنفوس الخبيثة المطبوعة على الشر، وشياطين الإنس، والعادات المستحكِمة.

 

* يلاحظ أن الحديث افتتح بـ"إذا" الشرطية وهذا يعني أن فتح أبواب الجنة أو الرحمة وتغليق أبواب النار وتصفيد الشياطين هو قرار بحدوث ذلك عند دخول رمضان فحسب تقديراً وتعظيماً لمكانة هذا الشهر وترغيباً للمؤمنين في الاستعانة بالله وكسر وسوسة الشياطين وسلطتهم النفسية، وهذا يعني أن هذا الإجراء لا يستمر في أيام رمضان كافة.  

 

* أن هذا الخطاب خاص بالصائمين المؤمنين وليس عاماً فهذا البركات مخصوصة بهم من فتح أبواب الجنة وغلق أبواب النار وتصفيد الشياطين عن مواصلة التأثير فيهم بقوة.

 

* ورد في الحديث أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، بمعنى أنه يكاد يكون جزءاً منه، يصل إلى قلبه ودماغه وجوارحه كافة بانفتاح وسرعة، وعندما يصوم المرء فإن هذا النشاط الدموي الذي يواكب الجهد والتعب البشري يتراجع بسبب قلة الوارد الغذائي والمائي مما يؤدي إلى ضعف حركة الأشياء المحمولة عبر الدم، وهذا تعبير مجازي عن ضعف الحضور الشيطاني عبر المنافذ العادية.   

 

* وسوسة الشيطان تزيين وإغواء وليست سيطرة على المرء، فالإنسان يملك الخيار دائماً، فإذا تركّبتْ نفسه على الشر ومال طبعُه إلى الفساد فهذا ميل نفسي لا علاقة للشيطان فيه إلا في باب زيادة التحبيب فيه، وهو ما يمتنع في رمضان عن هذه الشياطين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.