شعار قسم مدونات

لماذا لا يتأثر سلوكنا بالعبادة؟

blogs قرآن رمضان

لا شك أن شهر رمضان من أجل مواسم الخير والقرب من الله تعالى، حيث تتجلى فيه رحمة الله بعباده وعفوه عنهم، وتتاح مجالات البر والإحسان لمضاعفة أجور العاملين، ويتقلب المسلم في رياض الطاعة رجاء أن يناله شيء من نفحات ربه. فلا يليق بعاقل أن يركن إلى الخمول أو يستسلم لشهوات الذات فيستثقل الشهر المبارك وتفوته محطة مهمة من محطات السمو الروحي.

لقد كان المغزى من فرض الصيام في رمضان تحصيل التقوى بالمعنى الروحي الذي يدل على خشية الله، وبالمعنى السلوكي الذي يدل على فعل ما أمر الله به وترك ما نهى عنه، كما أشارت الآية الكريمة من سورة البقرة: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ". سورة البقرة. فالصيام سبيل من سبل خشية الله تعالى، ولك أن تلاحظ أن دافع الإمساك -المفترض- عن المفطرات بشتى أشكالها هو الخوف من الله تعالى، وإنما يصنع الصائم ذلك من منطلق أن الله أمر بذلك ونهى عن انتهاك حرمة الشهر، فتحصيل هذا المعنى هو ملامسة لجانب عظيم من جوانب التقوى، ولذلك فإن الصائم يناله من حظها بقدر صبره عن المعصية وعلى الطاعة، وكلما ارتقى بجوارحه عن سلوكات النفس السيئة ارتقى في سلم العبودية وترسخ عنده معنى الخشية وتحقق فيه مقصود "لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ".

للأخلاق وتهذيب السلوك حظ ونصيب من رمضان ومن الصوم بالتحديد، فلا معنى لصيام يخوض صاحبه بلسانه في الأعراض، أو يطلع ببصره الى السوء، أو يصغي بسمعه الى اللغو والبذاءة

ثم إن الإخلاص الذي هو مقصود الشرع من التكليف يتجلى مفهومه بشدة في الصوم، إذ إن المراءاة بالعمل وترك التجرد قد يمس أي عبادة أو سلوك، فيكون للشيطان وحظوظ النفس -من حب الثناء ونحوه- نصيب منها، يصيب هذا المرض كل أفعال المرء ويدخل على جميع الطاعات فيفسدها، ويجعل العمل شبحا بلا روح وشكلا بلا معنى، إلا أن ذلك يعسر أن يحصل في عبادة الصوم، وإلى هذا المعنى العظيم أشار الحديث القدسي: " كل عمل بن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به". جزء من حديث متفق عليه.

فمع أن الأعمال كلها لله وهو يجزي بها إلا أن جميع العبادات تظهر بفعلها، وقل أن يسلم ما يظهر من رياء، بخلاف الصوم، ولذلك أضافه الله تعالى إلى نفسه لأنه لا يطلع عليه بمجرد فعله إلا هو، فناسب ذلك أن يكون الصوم له وحده وهو يجزي به. أعتقد أن رمضان هو مناسبة عظيمة لتحقيق معنى الإخلاص وترسيخه في النفس وتعميمه على سائر القربات والسلوكات، فلا شيء أدعى لقبول العمل من جعله خالصا لله تعالى مجردا من كل الشوائب.

وللأخلاق وتهذيب السلوك حظ ونصيب من رمضان ومن الصوم بالتحديد، فلا معنى لصيام يخوض صاحبه بلسانه في الأعراض، أو يطلع ببصره الى السوء، أو يصغي بسمعه الى اللغو والبذاءة، فإن من شأن ذلك كله أن ينزل بهذه العبادة الراقية إلى عادة روتينية يشترك الإنسان في الانحدار إليها مع البهائم والعجماوات، والمسلم يربأ بصيامه أن يكون كذلك، أو أن يمسه قذى معصية، كي لا يكون ممن عناهم النبي بقوله: "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش". رواه ابن ماجه وأحمد وغيرهما.

وفي حبس عادات الطعام والشراب عن النفس ومنعها من الاستغراق في ذلك تعويد لها على التحمل ومقاومة المشاق، وتنمية لخلق الصبر، وإنما تقهر النفوس بمخالفتها والتمرد على طباعها السيئة، وما من سبيل إلى تكوين الإرادة الصلبة ومخالفة الهوى إلا سبيل الصيام، والصائم الذي ينجح في ذلك يعلن أنه تحول من مرحلة طاعة النفس والاستسلام لرغباتها إلى مرحلة الاستسلام لله والعبودية المحضة له تعالى.

لو توقف المرء عند كل آية وكلف نفسه عناء البحث عن مدلولاتها لكان خيرا له وأقوم. إن ذلك سيفيده بالتأكيد أكثر من مجرد القراءة دون فهم أو تأمل
لو توقف المرء عند كل آية وكلف نفسه عناء البحث عن مدلولاتها لكان خيرا له وأقوم. إن ذلك سيفيده بالتأكيد أكثر من مجرد القراءة دون فهم أو تأمل
 

أعتقد أن الصوم من هذه الناحية يشكل مدرسة أخلاقية متكاملة، ومنهجا قويما لتزكية النفس وتغذيتها بالفضائل الحسنة والقيم النبيلة. لكن من المهم التنبيه هنا إلى أن المبالغة في الشكليات والجنوح إلى الاهتمام بالمظاهر أخطر ما يفسد نية المرء ويفتك بعمله. خذ مثلا شخصا يحرص في رمضان على الإكثار من ختم القرآن مرات ومرات، ويبذل في ذلك أقصى جهده مستأنسا بفعل السلف، فهو يفتح مصحفه ويشرع في التلاوة وليس له من هم سوى الختم وتكرار ذلك، أما الفهم والتدبر فليس مشكلة بالنسبة إليه، مع أن القرآن الكريم اعتبر تغييب ذلك مظهرا من مظاهر عمى القلوب وانغلاقها: "أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا". سورة محمد.

فلو توقف المرء عند كل آية وكلف نفسه عناء البحث عن مدلولاتها لكان خيرا له وأقوم. إن ذلك سيفيده بالتأكيد أكثر من مجرد القراءة دون فهم أو تأمل. والأمر ذاته بالنسبة إلى صائم يهمه ألا يلج إلى بطنه شيء من المفطرات، ولكن لا يهمه أن تمتد جوارحه مثلا إلى الذنب فتقترفه وتتلبس به، فيكون إمساكه كإمساك من يفعل ذلك لتخفيف وزنه أو طرد علته، وربما أقل شأنا من ذلك. وهذا سلوك من شأنه أن يزهق روح الصيام ويحرم صاحبه من الفضل والنفع.

إن أي عبادة لا يمكن لصاحبها أن يتذوق حلاوتها وتنتعش بها روحه إلا إذا تسللت روح العبادة ذاتها إلى روحه فتمتزج الروحان معا، ويصل العقل إلى ذروة الحقيقة، ويهتدي السلوك من أثر ذلك إلى الاستقامة. إن الأثر الطيب للعبادة على سلوك الفرد مرتبط بمدى تفاعل النفس مع روح هذه العبادة وبمدى إدراك العقل لمعانيها وحكمها وأسرارها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.