شعار قسم مدونات

أرواحٌ تزهق.. فتضيعُ الفاتورة بين الجاني والضحية

blog- طبيب

نحن نولد ونكبر ظانين أنفسنا أحراراً كالطيور، نحلم ونسعى أعواماً خلف أحلامِنا، ثم يصطدم معظمنا في حائط الواقع ليجد أنّه في النهاية مسيرٌ لا مخير، فما أن يقف أمام محكمة الثانوية العامة حتى تسقطَ جميعُ أحلامه أمام سيفها، فإن حضر المعدل حتى حضر طلب التقدم لقبول كلية الطب أمراً لا خيار فيه، ورفض هذا الأمر هو الجنون في عينه.

 

في الطب أنت لا تحمل الخيار وقليلون جداً من كانوا يملكونه أحبوه وسلكوا طريقه برغبة، أما الباقون هم أثار خطايا المجتمع، يتحملون أوزار ذنوب لم يرتكبونها، محاصرين بجدران أمراضٍ اجتماعية من المكانة المرتفعة، والرقي، ووضوح المستقبل، ورغبات حصد المال، فيجد الإنسان نفسه داخل هذه الجدران محاصراً يسير في طريق يجهلها، كأن حكماً شرعياً فرض عليه، حكمٌ لم نتعلمه في كتب الدين أو سهونا عنه خلال دراستنا.

 

حين تعبر أبواب تلك الكلية تعرف مع كل خطوةٍ أنك ستخسر شيئاً خارجها، فتخسر صداقاتك وتتلاشى علاقاتك الأسرية شيئاً فشيئاً، لتجد نفسك محاصراً في النهاية بين واجبك بالدراسة ورغبتك بالهروب منها، وأما هؤلاء فتضيق جدران الحصار عليهم كلما زاد العبء، وما إن أدركوا أن استمرارهم مع هذا الثقل بات مستحيلاً حتى وقف مجتمعٌ كاملٌ في وجههم، فيتوجب عليهم خوض الحرب للتخلص من ذلك الحصار، وما إن فعلوا حتى أصبحوا حديث مجتمعٍ ثرثار لعقودٍ قادمة مثالاً للفشل والخيبة، وإن تراجعوا عن الحرب لن يصبح أمامهم خيار سوى الاستمرار خوفاً ورضوخاً لأمر المجتمع.

 

ما فعله المجتمع هو أن حول المهنة "الطب" إلى وسيلةٍ استعراضيةٍ بحتة، جعل منها أفضل ما يقال عنها مجرد تجارة أو مقاولة ولكن هذه المرة ليست في الحجارة والإسمنت ولكن بالأرواح

عندما نتخرج ونواجه واقع المهنة الصعب نتعلم جيداً أنّا لن نستطيع محاربةَ الموت ولكننا نحاول أن لا نكون سبب به، محاولين إرضاء الله وأنفسنا في ذلك، وأما الذين أضاعوا أنفسهم رغبة في إرضاء المجتمع، يصبح المريض بالنسبة لهم هو فأرُ التجارب، مفتعلين أخطاءً لا تعد ولا تحصى، دون أي مبالاةٍ بحياة المريض، فيخرج المريض من الطوارئ على قدميه ليعود بعد دقائق محملاً على الأكتاف ؛ لأن ذاك الطبيب لم يقدر ثقل مكانه وتجاهل تماماً أساسيات مهنته التي لا يحمل بالأصل أي اهتمامٍ بها، لا بل أصبح بعضهم يحاول الانتقام من أحكام المجتمع وسطوته على مستقبله من خلال تصرفه بتلك اللامبالاة، ويرمي أثار تقصيره على القضاء والقدر.

 

ما فعله المجتمع هو أن حول المهنة إلى وسيلةٍ استعراضيةٍ بحتة، جعل منها أفضل ما يقال عنها مجرد تجارة أو مقاولة ولكن هذه المرة ليست في الحجارة والإسمنت ولكن بالأرواح، أرواحُ أبنائهم التي يجنى عليها كل يومٍ بتعقيدات عمل محاصرين فيه بين قراراتٍ تفصل الموت عن الحياة، قرارات باتوا يتخذونها مجبرين، وأرواحُ مرضى تُضع تحت تلك الأيدي المهزوزة، تحت أيدي تفقد الإحساس بالذنب كلما زاد عدد الضحايا التي تموت بين يديها، وتتحول كل المعاني السامية بأن حياة المريض أغلى ما نملك بالنسبة لهم لمجرد أوهام، والمناداةُ فيها هي مثالياتُ سكان المدينة الفاضلة. هذه المشكلة ما هي إلا ورمٌ يكبر وينتشر ليدمر سمعة المهنة، ويخلق مسألةَ ثأرٍ بين المجتمع الطبي والمرضى وأزمة ثقة باتت تطال الجميع، ويبقى السؤال العالق من المذنب الحقيقي خلف كل تلك الضحايا؟ ومن سيدفع فواتير كل تلك الأرواح التي أزهقت؟

 

من جديد، ها هو المجتمع يقف ما بين الجاني والضحية، يحصد زرع يديه، واثقةً أنه لن ينصلح أبداً، ولكن بات لزاماً عليه أن يعلم أنّ الطب مقبرةٌ يُدفن الإنسان فيها إن دخلها رغماً عنه، وليس بمقدور الأموات أبداً مساعدةُ الأحياء بل تقتصر وظيفتهم على الإمساك بأيديهم وسحبهم إلى طريق الموت ليس إلا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.