شعار قسم مدونات

الصورة الكبيرة التي تثبت أننا لسنا خير أمة

blogs اليمن

أحياناً يعتريني شعور غريب لا أعلم مأتاه ولا منتهاه.. هل هاته الأمة هي فعلاً خير ما أُخرج للناس؟!.. هل هذا الوصف لا زال يستقيم مع حاضرنا؟.. أم هو صالح لكل زمان ومكان؟.. هل ذاك الماضي الجميل حفظ في الذاكرة ولن يتكرر؟.. هل أذلنا الله لأننا ابتغينا العزة بغير الإسلام أو كما قال عمر الفاروق رضي الله عنه؟.. لا أدري إن كان هذا الشعور زائفا لأصححه أم سليم فأثبت على موقفي، لا أعلم ماذا حل بي أهو انكسار الأمة أصبت بعدواه أم هو وسواس أوقعني في فخ الشك الذي يكتنف أيامنا، تطرأ أمام ناظري صور ضبابية مفزعة تقض مضجعي وتتركني أسير عالم مجنون، كجنون الأشجار عند العاصفة.. كرقص الجبال عندما تنفض الأرض ما علاها.

فأرى صورة شعب فلسطيني مكلوم يكابد ليعيش مُروعاً بصمت المحيطين به، شعب انقسم إلى نصفين!.. نصف محاصر براً وبحراً وجواً!.. لم يتركوا له سوى منفذاً واحداً تحت الأرض، لعلهم يجدون يوماً ما فتحةً يخرج منها يأجوج ومأجوج ليخلصهم من العذاب المهين، ونصف الثاني لا يزال تحت قبضة حركة "فتح" التي لم يفتح الله عليها بعد أبواب الفرج.. حركة تنتظر الظفر من جعبة "الشرعية الدولية" بقرار غير مسبوق، فخاب الطالب وخذله المطلوب، يطلبون العون من الغريب وقد أضحت أصوات مستهجنة -من بني جلدتهم – تكرر نفسها وتدافع همساً وعلانيةً عن يهودية القدس وحقهم في الدفاع المشروع عن أنفسهم، نعم أصوات يقال أنها عربية مضاف إليها صفة "مسلمة"، للأسف الشديد.

وأخيراً أسدل الستار على أم القضايا رغم نكاءات جراح أخرى قد فتحت بدوامة ذات حركة دورانية سريعة تسببت في تفشي أزمات في العالم العربي وحولتها تدريجيا إلى حروب جديدة، وهنا يلتحق الفرع بالأصل لأن العدو واحد، إن لم تحل هذه القضية حلًّا عادلًا وتتحرر فلسطين، فإن القضايا الفرعية لن تحل.

وجد الشعب اليمني نفسه بين طاحونتين قضت على الأخضر واليابس، ميليشيات حوثية شيعية وتحالف داعم لشرعية أهل السنة والجماعة، وفي خضم ذلك ضاعت مشروعية الجمع البائس

وسيبقى المشهد العربي فاقداً بوصلته وتائه بين الأزمات، لعل أبرزها الأزمة السورية، شعب سوري تشتت في كل أصقاع الأرض، يحملون معهم مظاهر البؤس والحزن، لم ينفعهم في مصابهم الجلل لا أسدهم المزعوم ولا مؤددهم المدعوم، وعن أي دعم يبحثون؟ هل الدب الروسي تقمص روحاً آدمية وغدى يمد عنقه شوقاً اليهم، أم الغازي الأمريكي أصبح أماً حنونة عطوفة تبحث عنهم لتضمهم إلى صدرها، أم احتواهم الذئب الأوروبي الذي -و كما هو معلوم- لا يهمه في هذا الأمر سوى وليمة دسمة يقايض بها رضا الدب الأبيض و/أو الأم السخية، تعقبها صورة شعب يمني وهنا الأمر سيان، في كل الأحوال القاتل والمقتول مسلم، والذريعة حماية الأمة من المد الشيعي ليمدوا أيديهم المرتعشة إلى مد صهيوني لا يبقي والداً ولا ولداً.

شعب يكابد الأمرين على مر العقود ويمر بأزمة نتيجة مواجهة طاحنة تقودها قوى اقليمية في مواجهة لا ناقة له فيها ولا جمل، شعب يعاني ويلات الحرب والعدوان وحصار يخنقهم ويمنع عنهم كل أشكال المساعدات، وجد نفسه بين طاحونتين قضت على الأخضر واليابس، ميليشيات حوثية شيعية وتحالف داعم لشرعية أهل السنة والجماعة، وفي خضم ذلك ضاعت مشروعية الجمع البائس، ضاع حق الشعب الكريم في الوجود والعيش في سلام.

الصورة المصرية أو ما يسمى بالثورة البيضاء لا تقل تعاسةً عن سابقتها، مع الرئيس محمد مرسى ودعت مصر حكم العسكر الذي حبس الأنفاس لأكثر من 60 عاماً ، لكن هذا الأخير لم يتربع كثيراً على سدة الحكم، ربما لأنه لم يتدرج في فك قبضة بقايا "النظام المباركي" خاصةً على المشهد الإعلامي المدجن طيلة سنوات طوال، فرجع حكم العسكر من جديد بانقلاب أسود ضرب الثورة البيضاء في عذريتها،  ضرب بعرض الحائط كل القوانين والأعراف الدولية وقتل المئات من "الإخوان" وسط صمت المتبجحين والمفاخرين بالحريات وحقوق الإنسان، الآن مصر في أحلك فتراتها.. فقدت دورها الإقليمي، تحت خط الفقر يرزح شعبها المسكين، وقائدها الهمام يتلون كالحرباء،  تارةً في شكل حمامة بيضاء وتارةً أخرى على شاكلة غراب أسود يهدد ويتوعد كل من يقترب من دعائم عرشه الهش.

تليها صورة شعب ليبي ظل بدون دستور خلال فترة طاغية جثم على صدورهم 42 سنة، موهماً إياهم أنه نازل عند رغباتهم بتطبيق الشريعة،  ولكن العجب العجاب بقاؤهم على تلك الحالة من التشرذم والضياع حتى بعد الثورة، انقسموا إلى نصفين أيضاً،  فيهم "الحفتري" وفيهم "البلحاجي" وما بينهما جمع تائه لا يدري بأي سرب يلتحق، انقسموا بين ثوار جاؤوا ليشيدوا على انقاض ماضيهم قصوراً كرتونية هي أهون من خيط العنكبوت وبقايا نظام يحاول أن يتعافى من جراحه تدريجيا ويتربص بهم عند الباب يتحين الفرصة الملائمة،

صورة "الاستثناء التونسي" بعد الثورة،  ربما يكون مبالغ فيها،  لكن يبقى واقعاً ملموساً بالمقارنة مع التجارب المذكورة سابقاً في سياق الربيع العربي والتي اتسمت بالانقلابات وبتغيير مسارها الثوري من نسمات الحرية والكرامة إلى رياح عاتية اقتلعت شعوباً من جذورها.

تونس تقدمت أشواطاً نحو تعزيز ديمقراطيتها الجديدة، إلا أنه انتصار نسبي بما أن الوضع لا يزال صعباً على المستوى الاقتصادي، ما انجرّ عنه من عدم استقرار نتيجة أعمال عنف تشوبها بين الفينة والأخرى، احتجاجات اجتماعية على غلاء الأسعار يقابله أسلوب استعلائي تارةً وانبطاحي تارةً أخرى من نخبة وطنية، لم يكن شغلا شاغلا لديها المواطن الذي انحدرت قدرته الشرائية إلى أدناها، وهي ذات الوضعية للبلاد عامة التي تفاقمت مديونيتها الخارجية.

في حقيقة الأمر ما يمثل الاستثناء التونسي هي المكاسب الدنيا التي حققتها النخبة السياسية والمدنية المتشكّلة حديثًا أهمها مناخ الاعتدال والتوافق بين « حركة الإسلام الديمقراطي» المدعوم من الغرب- عراب الشرق الأوسط الجديد- وبقايا النظام المسنودة من المشرق، لكن بقي هذا التوافق محل تساؤلات وتحليلات كثيرة خاصة لدى "الغرب الحذر" الذي يفاجئنا من حين لآخر بتصنيفنا في قائمة من قوائمه السوداء ثم يلغيها.

undefined

بقية المشهد العربي يتألف من دول مستضعفة ومغلوبة على أمرها تتعرض إلى ضغوطات وابتزاز مقابل استقرار مزعوم، ومنهم لبنان التي تعاني من ​سياسة​ المحاور ومن اضطرابات آخرها تخلي "النظام الحريري" عن الحكم وعدوله بتدخل فرنسي!، و لا نعلم لماذا يحدد مصير هذه دولة دائماً من الخارج -من الثالوث السعودي الإيراني الفرنسي-، العراق أيضاً يعاني من صراعات داخلية تمزقه وخاصةً من فساد مالي وإداري لا يقل شأناً عن ضربات الإرهاب، تهدر أمواله بمساهمة أطراف عديدة محلية وإقليمية ودولية وبتواطؤ من وزراء وساسة محليين.

من المشرق ننتقل إلى المغرب وجبهة البوليساريو هي صورة أخرى من صراع الأخوة، تخيلوا أن هناك منطقة عازلة في الصحراء الغربية بين المغرب وجبهة "عربية" تأسست في السبعينيات بدعم جزائري وتمويل ليبي، هذه الجبهة تريد أن تتمزق عن المغرب في الوقت الذي تتحد فيه دول أخرى مع بعضها البعض، صراع مغربي-جزائري عنوانه الرئيسي جبهة البوليساريو وسبب من أسباب عدم قيام المغرب العربي.

نحن أمام لوحة مبهمة لها ألف مقصد، لوحة زيتية مخضرمة وغير مفهومة،  كل زاوية منها تعطيك قراءة مختلفة عن الأخرى، فيها المنطقي وفيها المبهم والباقي ذر رماد على العيون، و كلما اقتربت من تفسير غموضها تتجلى لك أشياء أخرى لم تلحظها سابقاً فيتشوش فهمك من جديد، المؤكد أن هناك أداة وصل لا يعلم كنهها وحقيقتها سوى من رسموها بحبكة وخبث لا مثيل له، من الذين تكالبوا على "أمة فريسة" اختلط حابلها بنابلها، نعم اختلطت علينا الأمور ولم نعد نفرق بين خيطها الأسود وخيطها الأبيض، بل وطفق خيط رماديٌ سميك في عمق تفاصيلها زاد في الطين بلة، الأمة تتوجه نحو فجر جديد، هل هي فعلاً ملامح الشرق الموعود.

لا يستطيع قطار الحياة أن يعود بنا إلى الوراء إلى زمن الإشعاع العربي الإسلامي، لكن فيه نوافذ يمكن أن نستشرف بها مستقبل هذه الأمة أو نأخذ عبرةً بالتفاتةٍ سريعة إلى الخلف.. سنرى في يوم من الأيام صورةً جميلة لشعوب فذة يحسب لها ألف حساب.. مهابة على أرض الواقع لا في قصص الغابرين.. حالنا قد يتغير بين لحظة وأخرى، لكن يجب أن ندفع نحو فهم مسبباتها ونعالج ما يمكننا معالجته، ونترك الباقي لرب السماء ورافعها ورازق من في الأرض.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.