شعار قسم مدونات

الثورة العلمية.. لماذا يتوهم الناس موت الفلسفة؟

مدونات - رجل يقرأ
البيضة أصل الدجاجة أم الدجاجة أصل البيضة؟
السؤال الطريف المعقد، الذي حير العقول منذ فجر التاريخ وأثمر عن جدال عبر العصور انبثق عنه نظريات وفرضيات عدة أدت في نهاية المطاف إلى ضرورة التجريب والإثبات المحسوس والمادي حتى يتسنى للحقيقة أن تُدعم بالأدلة والبراهين المنطقية المثبتة للعيان. هذا مثال بسيط ليس حقيقيا بعينه، إنما حقيقة الجدال حول هذا السؤال يمكن أن تضرب مثالا واقعيا كيف ولد العلم من رحم الفلسفة الأم، وكيف كانت الاسئلة الفلسفية أرضا خصبة لغالبية العلوم والنظريات الحديثة التي نشهدها اليوم.
  
لكن أين الفلسفة اليوم أمام الثورة العلمية؟ وهل بدت أمام العلم اليافع عجوزا في خريف العمر في انتظار رحيلها؟ وهل ستأخذ الإبيستيمولوجيا وفلسفة العلم المكان الذي طالما شغلته الفلسفة وينتهي بذلك الحضور العام الشامل لها؟! كل هذه التساؤلات يصعب الجزم بها في الوقت الراهن، جل ما يمكن ملاحظته فعليا هو بدأ خفوت ضوء الفلسفة -بمفهومها الكلاسيكي- الذي كان وضاحا منذ فجر التاريخ، إلا أننا لن نستطيع التخمين فيما إذا كان سينطفئ أم سيشع بريقه بقوة من جديد لا سيما أن الفلسفة هي التي مهدت الطرق إلى الأفكار والتساؤلات لتتحول إلى علوم واكتشافات.
 

الفلسفة وعلاقتها مع العلم
الفلسفة هي المحرك الأول للثورة العلمية، ولا أرى أوفى من إجابة العالم والفليسوف راسل حين سُئل عن ماهية وأهمية الفلسفة: "الفلسفة هي فرضيات حول أمور لا يمكن الحسم بها بطريقة نهائية من الناحية المعرفية"

غالبا الفلسفة تبدأ بسؤال والسؤال يتحول إلى فكرة والفكرة تجد طريقها في حقول التجربة والاستقراء ثم تتحول بدورها إلى نظرية أو اكتشاف أو التوصل إلى قانون كوني، إذن؛ لولا الفلسفة لما وجد العلم ولولا العلم لم تجد الفلسفة طريقا للتجربة والاختبار وبالتالي ثورة في التاريخ البشري. وهذه الثورة ولدت رغبة لدى العلماء إلى فصل كل الأسئلة التي لا تملك إجابات منطقية، أو تنتهي بإجابات لا يمكن إثبات مدى صحتها، لذلك قاموا بفصل العلم عن الفلسفة. إلا أن هذا الانفصال لم يكن كليا بل طريقا إلى وضع منهج للأسئلة الفلسفية التي لا يوجد إجابة لها ولكنها قابلة للبحث والتجربة أمام المعطيات الحسية وتم بذلك ربط الفلسفة مع العلوم الفيزيائية والاجتماعية وعلم النفس وغيرها من العلوم، لا سيما أن تلك العلوم كانت بالأصل ضمن حقول الفلسفة بشكل مجرد وبدأت تنتقل تدريجيا إلى علم تجريبي منفصل عن دائرة الاسئلة والتحليل النظري، وربما أبرز هذه العلوم والنظريات نظرية التطور للعالم البريطاني تشارلز داروين التي بدأت بطرح الاسئلة والدراسة النظرية إلى سبب الترابط والتشابه بين الكائنات الحية ثم انتقلت إلى طور البحث المادي بالأدلة والبراهين الحسية وانتقلت بذلك من مجرد فكرة إلى نظرية مثبتة علميا وبالتالي إلى علم منفصل.

 
ولا يسعنا إلا أن نذكر في هذا السياق نظرية النسبية للعالم العبقري آلبرت آينشتاين تلك النظرية التي كانت في البداية مجرد سؤال فلسفي فحواه: ما هو الزمن؟ هذا السؤال الذي لم يكن يملك إجابة محددة ووافية حتى جاء آينشتاين وأعطانا جوابا منطقيا مدعما عن نسبية الزمن. لم يعد مثال سؤال البيضة والدجاجة محيرا حين انفصل عن سياق الفلسفة وانتقل إلى نطاق البحث العلمي والتجربة، إلا أننا بذلك لا نهمل دورالفلسفة التي كان لها الفضل في طرح هذا السؤال منذ البداية وبالتالي التوصل إلى طريق للإجابة.
 
وبصيغة أخرى؛ ربما تكون الثورة العلمية قد أضعفت دور الفلسفة إلا أنها لم تقضِ عليها لا سيما أنها المحرك الأول لها، ولا أرى أوفى من إجابة العالم والفليسوف بيرتراند راسل حين سُئل عن ماهية وأهمية الفلسفة وأجاب : "الفلسفة هي: فرضيات، فرضيات حول أمور لا يمكن الحسم بها بطريقة نهائية من الناحية المعرفية، وأضاف حين سئل عن الفرق بين الفلسفة والعلم: العلم هو ما نعلم والفلسفة هو ما لا نعلم، ولهذا الأسئلة تمر باستمرار من الفلسفة إلى العلم. وكانت إجابته عندما سئل عن فائدة الفلسفة: أعتقد أن الفلسفة لها فائدتان؛ الفائدة الأولى هي الإبقاء على التكهنات المتعلقة بالمسائل التي لا يستطيع العلم الآن أن يتطرق لها. والفائدة الثانية أنها تمكننا من الاستمرار في التفكير في الاشياء التي قد نعلمها يوما من جهة، ومن جهة أخرى تمكننا من البقاء متواضعين واعيين بكم الأشياء التي كانت تبدو كمعرفة وهي ليست كذلك حقاً".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.