شعار قسم مدونات

الإيديولوجية مقابل الأمن.. السعودية كجهاز إيديولوجي في يد أمريكا

blogs ترمب و الملك سلمان

"لا يمكن للقوة المادية أن تحقق الهيمنة والسيطرة على الشعوب إلا إذا رافقتها أيديولوجية مبرِّرة لوضع قائم، ومزيِّفة للحقيقة".

– صادق حجال.

 

مما لا شك فيه اليوم أن السعودية، ومن سار في فلكها من دول الخليج، تعد دولا حليفة للولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، وقد أضحى هذا من بديهيات الأمور التي تستغني عن التدليل والتبرير. غير أنه قد ظهرت في الآونة الأخيرة تحليلات لكتاب ومحللين، تروج لفكرة أن أمريكا في طريقها للتخلي عن السعودية ودول الخليج!، حجتهم في ذلك أن الولايات المتحدة تمتلك من النفط ما يكفي ليجعلها تتخلى عن منطقة الخليج.

في واقع الأمر، أرى أن حجة هؤلاء هشة لا تصمد، والعلّة في ذلك أن الولايات المتحدة لا يهمها استهلاك النفط بقدر ما يهمها احتكاره والتحكم في أسعاره كرافد من الروافد التي ترتكز عليها استراتيجيتها لحفظ تفوقها وهيمنتها العالمية؛ فبتحكمها في سعر هذه المادة الحيوية يكون بمقدور الولايات المتحدة إضعاف روسيا وإيران مثلما حصل سابقا ويحصل اليوم، كما سيكون بمقدورها إخضاع القوى المستهلكة للنفط والمنافسة لها لشروطها وإملاءاتها مثل الصين؛ كونها هي التي تتحكم في طرق إمداداته وإنتاجه.

ولكي تحكم قبضتها على المنطقة العربية كان يتعين على الولايات المتحدة ألا تعتمد على القوة فحسب، مثلما فعلت في العراق عام 2003م، وليبيا عام 2011م، وحتى وفي سوريا واليمن في سياق الحراك العربي عبر وكلائها الإقليميين من العرب أساساً كالسعودية، بل كان عليها أن تعتمد على أيديولوجيةٍ محكمةٍ من أجل إنتاج وعيٍ زائفٍ لدى الشعوب العربية المسلمة يجعلها ترى الواقع من منظور غير حقيقي كفيل بأن يخدم مصالح أمريكا والغرب وإسرائيل ووكلائهم من العرب في المنطقة.

ترجع جذور تحول السعودية إلى جهاز إيديولوجي في يد الغرب إلى "الثورة" العربية الكبرى التي قادها الشريف حسين ضد الدولة العثمانية

لكن أمريكا والغرب دول علمانية ولغتهم الإنجليزية وإسرائيل دولة يهودية ولغتها العبرية، وبالتالي لا يمكن أن يعتمدوا اعتمادا كليا على أنفسهم في بناء أيديولوجية قادرة على تزييف وعي الشعوب العربية المسلمة، وإخفاء الحقائق، وتبرير أعمالهم الاستغلالية والدموية في منطقتنا وفي مناطق كثيرة من العالم. وبالتالي، كان الحل يكمن في الاعتماد على المملكة العربية السعودية، ذات القدسية الكبيرة بالنسبة للمسلمين في العالم أجمع؛ إذ يكفي صدور أي كلام مغلّف بالدين من أي شيخ من مشايخ السعودية حتى يمسي لدى الشعوب العربية بمثابة قرآن مقدس لا يمكن مخالفته ولا نقاشه. وعليه، من هذا المنطلق جعلت أمريكا السعودية بمثابة جهازها الأيديولوجي لتحقيق هيمنتها على العالم العربي والإسلامي. 

في واقع الأمر، ترجع جذور تحول السعودية إلى جهاز إيديولوجي في يد الغرب إلى "الثورة" العربية الكبرى التي قادها الشريف حسين ضد الدولة العثمانية. فالدول الاستعمارية، وفي مقدمتهم بريطانيا، حرّضت تلك الثورة التي قادها العرب باسم القومية والإسلام، وقامت بهندستها ودعمها من أجل إضعاف خصيمتهم الدولة العثمانية، ليس فقط من حيث وحدتها الجغرافيا واستنزاف قوتها داخليا ضد الأقليات العميلة للقوى الخارجية، كما هو معروف، وإنما أساساً من أجل القضاء على نقطة قوة الدولة (الخلافة) العثمانية، المتمثلة في قدرتها الفائقة على حشد وتعبئة الشعوب المسلمة باسم الدين الإسلامي للجهاد ضد الأعداء المغتصبين.

 

وذلك من خلال استغلال الإيديولوجية الدينية التي كان يتمتع بها حليفهم المحلي، الشريف حسين، وتوظيفها ضد الدولة العثمانية، بالشكل الذي يجعل هذه الأخيرة تفقد شرعيتها الدينية ما يؤدي بالمحصلة إلى إضعاف نقطة قوتها المتمثلة في التعبئة باسم الدين الإسلامي، والظاهر أنها نجحت في مسعاها نجاحا باهرا؛ فالشريف حسين، مع مشايخ الدين، مثلوا جهازاً أيديولوجياً حيوياً في يد الغرب من أجل القضاء على مصداقية الخلافة الإسلامية العثمانية؛ حيث رُوج لفكرة أن الخلافة الإسلامية الصحيحة لا يمكن أن تكون إلا في يد قرشية، وبأن الخلافة العثمانية مجرد شعار في يد الأتراك. لهذا كله، نعتقد أن الولايات المتحدة لن تتخلى عن السعودية، لأن الأخيرة عبارة عن جهاز أيديولوجي عالمي كبير، تعمل من خلاله أمريكا على:

* تبييض صورتها، أي أمريكا، لدى الشعوب الإسلامية؛ فهذه الأخيرة مازالت تعبَّأ وتوجَّه وفق فتاوى وتفسيرات المشايخ والأئمة، وقد رأينا في الآونة الأخيرة خرجات بعضهم التي تدعو إلى ضرورة التحالف مع أمريكا المحبة للسلام !، وكلنا يتذكر من قبل كيف تم تبرير تواجد أمريكا العسكري فوق الأراضي المقدسة"دينياً".

* محاولة القضاء على الفكر الجهادي المناوئ لها ولحلفائها، وهي التي كانت قد دعمته قبل أن يرتدّ عنها ليصبح "غير مرغوب فيه"؛ ففي فترة الحرب الباردة عُرف الجهاز الأيديولوجي العالمي (السعودية) بفعاليته الكبيرة بالنسبة لأمريكا في حشد المسلمين ضد الاتحاد السوفييتي في العالم الإسلامي. وضمن هذا السياق، يعترف ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، في مقابلة له مع مجلة واشنظن بوست، بأن بلاده دعمت الوهابية في فترة الحرب الباردة بطلب من الغرب من أجل محاصرة الاتحاد السوفييتي. النقطة المهمة والمثيرة للجدل ليس في دعم الفكر الوهابي وإنما في اعترافه بأن بلاده مجرد جهاز أيديولوجي عالمي في يد الغرب. بالطبع فيما بعد أصبحت طموحات هؤلاء المجاهدين عبئا على السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، فتقرر الدخول معهم في مواجهة مسلحة دامية، لتتحول السعودية من أيديولوجية الدعوة للجهاد وتحقيق الخلافة الإسلامية، إلى أيديولوجية التخويف والتهويل من هؤلاء الذين دعمتهم واعتبرتهم في وقت سابق بأنهم مجاهدون في سبيل الله. 

الصورة النمطية التي ترى في العلاقات الأمريكية-السعودية علاقة مبنية على معادلة النفط مقابل الأمن، هي صورة ناقصة قد تقدم لنا نتائج ناقصة لتفسير العلاقات الأمريكية السعودية
الصورة النمطية التي ترى في العلاقات الأمريكية-السعودية علاقة مبنية على معادلة النفط مقابل الأمن، هي صورة ناقصة قد تقدم لنا نتائج ناقصة لتفسير العلاقات الأمريكية السعودية

* استغلال بعض الفتاوى الدينية لتحريض الشعوب العربية المسلمة على أنظمة الحكم المناوئة لأمريكا، مثل الدعوات التي أطلقها العديد من المشايخ والأئمة التي تقضي بضرورة الجهاد ضد النظام السوري. في مقابل ذلك، عندما يتعلق الأمر بانتفاضة الشعب السعودي أو البحريني ذات الأنظمة الموالية لأمريكا يظهر هؤلاء المشايخ أنفسهم على منابر الأراضي المقدسة لتفتي بعدم جواز الخروج عن الحاكم.

* تبرير التواجد الصهيوني فوق الأراضي الفلسطينية، بدليل تصريح ولي العهد السعودي نفسه في أحد مقابلاته مع مجلة "ذو أتلانتيك" the Atlantic بأن" الفلسطينيين والإسرائيليين لهم الحق في العيش بسلام "على أرضهم".

هذه بعض الأمثلة فقط لتوضيح لماذا لا يمكن لأمريكا أن تتخلى عن هذا الجهاز الأيديولوجي الكبير والمُقنع- السعودية- (يكون مقنعاً جداً بالنظر لجهل شعوب المنطقة العربية لدرجة أنهم مستعدون لقتل بعضهم البعض بمجرد فتوى)، تخيلوا لو حدث ذلك، وسيطر شخص آخر على الحكم في السعودية كجهيمان العتيبي أو غيره، فيدعو العالم الإسلامي من منابر الأراضي المقدسة للجهاد ضد أمريكا، أو على الأقل يفكّ ارتباطه بأمريكا وحلفائها ويتوقف عن تبرير مشاريعها في المنطقة. أعتقد أن حينها ستحل الكارثة الحقيقية على أمريكا وحلفائها.

الفكرة الأساسية مما تقدم، تتمثل في ضرورة تجاوز تلك الصورة النمطية التي ترى في العلاقات الأمريكية-السعودية علاقة مبنية على معادلة النفط مقابل الأمن، فهذه صورة ناقصة قد تقدم لنا نتائج ناقصة في تفسير العلاقات الأمريكية السعودية، فالعلاقة بين الطرفين ليست مبنية على النفط فقط، بل يمكن القول بأنه هناك متغير أكثر حسماً من النفط في تفسير العلاقات بين الطرفين، وهو متغير الأيديولوجية؛ فالسعودية هي بمثابة جهاز أيديولوجي عالمي وحيوي في يد الغرب وأمريكا، يجعل العلاقة بين الطرفين تقوم على الإيديولوجية مقابل الأمن؛ أي يعمل النظام السعودي من خلال مشايخ الدين على تبرير سياسات أمريكا وحلفائها في المنطقة مقابل ضمان أمن بقائه وسيطرته على الحكم. وعليه، فإن أي تغيير جوهري في المنطقة سوف لن يكون إلا حينما يتزعزع الجهاز الأيديولوجي العالمي أو يصبح تحت سيطرة قوة أخرى غير الغرب وأمريكا. حينها تصبح الهيمنة الغربية على العالم الإسلامي في خطرٍ مبينٍ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.