شعار قسم مدونات

هكذا كان العناق الأخير للرضيعة "ليلى الغندور"

مدونات - ليلى الغندور
توقفتُ طويلاً أمام صورةِ الطفلةِ "ليلى الغندور" ذاتِ الثمانية شهور، ليلى صاحبةُ العينين الخضراوين والملامح التي تشع بالذكاء قتلتها يد الغدر الصهيونية في مخيمات العودة بعدما استنشقت غازاً مسموماً.. توقفتُ طويلا ً أمام مشهد وداع ليلى، قبل أيام كانت ليلى تلهو وتلعب وترضع العزة حليباً، قبل أيام كانت نائمة بين أبويها، تارة تحرك يدها وتارة أخرى تحرك قدمها ولعلها أحياناً كانت تتمدد في ارتياح بينما توقظ أبويها، أستطيع أن أتخيل كيف كانت أم ليلى تطبع على جبينها قبلة حينها فهي حبيبة أبويها، ملاك البيت وروحه.
 
فجأة لم تعد هناك ليلى، فرغ البيت منها وضحكاتها وقهقهاتها ومن بكائها حين تجوع، افتقدتها كل الأماكن، سكن صوتُ البيت وبقيت رائحتها، بقيت ملابسها الصغيرة وبقي جرح فقدها ولوعة احتضانها، وصار لزاماً على أم ليلى أن تعانقها العناق الأخير لتواري شطراً منها التراب، بربكم هل تحتمل أي أمٍ في العالم فقداناً كهذا؟!
 

ليست وحدها ليلى من حظيت بذلك العناق الأخير.. آلاف من الأمهات الفلسطينيات عانقن أولادهن العناق الأخير، ذلك العناق الحار الذي يكتب عهداً باللقاء في الجنان، كثيراتٌ ودعن فلذات أكبادهن بالزغاريد والشكر والحمد، هنا في فلسطين تنقلب كل معادلات الأمومة، فكل أمٍ لها فلذات أكبادٍ لم تنجبهم إلا ليكونوا شهداء يوماً ما "فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا" نعم رحل منا الكثير من الشهداء والبعض الآخر شهداء مع وقف التنفيذ.. أطفالنا عصافير في الجنة، نساؤنا سيدات الحور في الجنة، قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار.
     

الطفلة
الطفلة "ليلى الغندور" (مواقع التواصل)

 
تجول هناك بين أدخنة الكوشوك وأدخنة الغازات السامة والمسيلة للدموع لترى رجالاً بحق، لترى أخوات رجال بحق، ولترى أطفالاً كبروا قبل أوانهم وفهموا كل معادلات الصراع التي عجز عن فهمها الكثيرون، قلب عينيك بينهم لترى كيف يرهبون جيشاً لا يُقهر بسلميتهم.. هناك ستجد الجميع يسعى لذلك العناق الأخير فإما نصرٌ وإما شهادة..
 
هناك ستجد لكل شهيد حكاية… فهؤلاء أخوة من الشهداء وهذا الشهيد أمس كانت خطوبته وهذا كان يوم ميلاده والآخر استشهد بنفس تاريخ صدور جواز سفره لكنه علم أن الجنة لا تحتاج جواز سفر.. وآخر طالب ثانوية عامة لن يسمع اسمه ضمن قائمة الناجحين لأنه نجح في اختبار أكبر من أي اختبار نخوضه نحن.. وآخر وحيد أبويه وآخر ذكرى بتر قدميه في حرب 2008 وآخر زوجٌ حنون كان خائفا على زوجته ويقول لها لا تقتربي من السلك لا أستطيع أن أحيا دونك ففارقها هو.. لكل شهيد حكاية فمنهم الرضيع ومنهم الشاب والكهل والعجوز.. كلهم تجتمع دماؤهم لعلها تغسل عار من رضي وصمت.. بينما تُعلنُ القدس في يومِ نكبتنا عاصمة للكيان الغاصب لتكون لنا نكبتين.. وسيكتبُ التاريخ كل هذا حينما يكونُ الوداعُ الأخير، وتغرق عيوننا بالدموع، نوقن أنه ما من سبيل للقاء مرة أخرى، نعلم كم سنفتقد شهداءنا وكيف ستسأل بيوتنا عنهم شوقاً، كيف سيتفجر كل مكان نابضاً بذكرياتهم، نعم نعلم ألم الفراق وعشنا مرارة الفقد، وكيف سنفتقد بسماتهم في الصباح، كل هذا الألم يمر أمام أعيننا حينما يكون الوداع الأخير.
   
"وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ" (171)آل عمران. قد تفارقنا أجسادهم لكنهم بدمائهم وقود عز للأمة، وما نالت أمة عزتها دون تضحيات، في فلسطين لا نخاف العناق الأخير ولا نخشى الوداع الأخير، نؤمن أن اللقاء لن يطول وكلنا عائدون إلى الله.. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.