شعار قسم مدونات

من مؤشرات التنمية الاجتماعية في سورة الجمعة

مدونات - قرآن

إن الله عز وجل لما ارتضى هذا الكتاب العزيز ليكون مناهجاً يرشد الأمة وينير طريقها للدارين، ويخرجها من ظلمات التخلف والتبعية إلى نور الرقي الحضاري بجزأيه المادي والمعنوي؛ لا شك أنه جعل فيه مرشداً وحادياً للدلالة على وسائل تلك الأهداف العظيمة التي من شأنها إسعاد البشرية في حياتهم ومعادهم، ومن منطلق التسليم التام بهذا المبدأ والإيمان الكامل به شرعت في كتابة هذا المقال وأسأل الله التوفيق والعفو مما قد يحصل من قصور في التناول أو سوء في الفهم أو خطأٍ في التوظيف.

علاقة الإنسان بالكون

"يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ" هذه الآية تدعو إلى ضرورة الصلة بالله عز وجل، وأن الإنسان يشترك مع هذا الكون في موضوع العبادة والخضوع لله سبحانه؛ إذ كيف يخضع هذا الكون بما فيه لله عز وجل ويستنكف ذلك العبد الضعيف!، فالعبادة سبب من أسباب التنمية الفردية والاجتماعية؛ سواءً في مجال الأموال والأنفس، أوفي مجال الفكر والعلم.

 

ومن شواهد الأول ما جاء في سورة نوح؛ "فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا…" وقوله: "وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا…"، ومن شواهد الثاني قول الله عز وجل: "وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ" وقوله: "إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا.." أي قدرة ذهنية ذاتية متزنة يفرق بها الإنسان بين الحق والباطل، والخير والشر، والصواب والخطأ، وليس المقصود بتقوى الله هنا مجرد التعبد المحض المنفصم عن الانفتاح على الكون والأخذ بأسباب التمكين والإعمار والتي منها الوعي والسعي والإدراك؛ بل إن حسن التمثيل لهذا الدين وتقديمه للناس وفق منهجه البنائي الشمولي العالمي يعتبر جماع التقوى.

الابتعاث يولد الانبعاث
"وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ" وتعطف لنا هذه الآية الكريمة معنىً عظيماً في مجال التنمية وهو التأسيس لما يسمى بالتنمية المستدامة، وضرورة وجود النظرة المستقبلية للامتداد الحضاري

– (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ..)، من لوازم إرادة التنمية تحريك العجلة التنموية في الوسط البشري بـ "الوعي والسعي".

– (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ)، نشر المعرفة.

– (وَيُزَكِّيهِمْ)، تهذيب النفوس وإزالة العقد المفضية إلى الافراط أو التفريط، بالتخلية والتحلية.

– (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ)، الاهتمام بالتعليم.

– (وَالْحِكْمَةِ)، الخبرات والمهارات العملية المتنوعة في شتى المجالات والعلوم الحياتية، وفي هذا إشارة إلى أن الجانب العبادي وحده لا يكفي للتّأسيس لتنمية شاملة مستدامة؛ وإنما لابد من الانتشار في الأرض، والولوج في شتى أبواب العلم، والخوض في غماره ولججه، وإعداد المتخصصين المهرة في جزئياته، فما أجمل التدين حين تخالطه الخبرة والمهارة والإتقان فينتج الإبداع والتميز.

– وبقدر تحقّق عناصر التنمية الاجتماعية الشاملة في مجتمع ما؛ تكون النتيجة حتماً إيجابيةً ويرتفع الضلال القَبْلي (وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

التنمية المستدامة

"وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ" وتعطف لنا هذه الآية الكريمة معنىً عظيماً في مجال التنمية وهو التأسيس لما يسمى بالتنمية المستدامة، وضرورة وجود النظرة المستقبلية للامتداد الحضاري والعمل المتواصل والسعي الدؤوب لتحقيق ذلك، وهذا ما قرره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم من مكانة حتى يغرسها فليغرسها"، وفي رواية أخرى "فَإِن للنَّاس عَيْشًا بعدُ".

وفي هذا تأسيس سابق لما يقوله الغرب اليوم عن التنمية المستدامة؛ بل وزيادة عليه، حيث قالت عنها اللجنة العالمية للتنمية المستدامة أنها: "تلبية احتياجات الحاضر دون أن تؤدي إلى تدمير قدرة الأجيال المقبلة على تلبية احتياجاتها الخاصة"، وديننا يقرر ذلك مع حرصه على تقديم قيمة خدمية أخرى للأجيال اللاحقة، وإنشاء تنمية اقتصادية مستقبلية تسهم في رغد العيش لهم (فليغرسها فإن للناس عيشاً بعدُ).

ضرورة ارتباط الفكر بالوحي والكون

ثم يأمرنا الله عز وجل بضرورة ارتباط الفكر بالوحي والكون، وهذا الأمر جاء بأسلوب التحذير من أناس فكوا ذلك الارتباط ففشلوا في مهمة الاستخلاف بعدم تحريكهم عجلة التنمية حتى تآكلوا وانقرضوا من الإنسانية قبل أن ينقرضوا من الوجود، فقال سبحانه حاكياً عنهم:

"مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا" ثم يقرر الله سبحانه فساد سعي هذا الصنف من الناس لتنصلهم من تحمل الأمانة وانسلاخهم من المعاني الحقيقية للإنسانية فيجزم بعدم قدرتهم تمني الموت لعلمهم الجازم أن لا مستقبل لهم في الآخرة فيقول سبحانه: "قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ".

ثم تشتد اللهجة التحذيرية الحريصة على الإنسان محاولة أطره على الخير بالترغيب تارة وبالترهيب أخرى، فتأتي الآية التالية مبينة حتمية المصير وحتمية قطف الثمرة. "قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ". وفي هذا التذكير التحذيري إرشاد يلهم الإنسان بواعث الاستقامة المبنية على الهدى الإلهي ليتحقق بذلك التوازن في السعي للدارين، مع ترجيح كفة الآخرة في العمل.

undefined

التوفيق بين التنمية الدنيوية والأخروية

ثم تأتي الآيات التالية لتؤكد لنا وجوب ترجيح العمل للآخرة على العمل للدنيا عند التعارض، فتقول: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ الله". فقد تضمنت هاتين الآيتين منهج دقيق في الموازنة التنموية؛ فوازنت بين التنمية الحسية والمعنوية والدنيوية والأخروية، بين تنمية الفكر والروح من جهة؛ والتنمية العمرانية من جهة أخرى، لتحقيق التوازن الروحي الذي يمنح صاحبه السعادة والرضى مما ينتج عن ذلك حسن التوفيق بين الحياتين بما لا يُخل بإحداهما.

كذلك تضمنت الآية موازنة دقيقة بين وسائل وأساليب هاتين التنميتين، ففي الأولى استخدمَت أسلوب "السعي" فاسعوا، وفي الثانية استخدمَت أسلوبَي الانتشار والابتغاء "فانتشروا، وابتغوا"؛ وفي هذا دلالة على نوعية الوسائل التي ينبغي استخدامها عند الإقبال على كلا التنميتين لئلّا تبغي إحداهما على الأخرى، ولو نظرنا إلى معاني ودلالات الكلمات الثلاث (اسعوا، انتشروا، ابتغوا) لوجدنا أن ثمة فرق واضح في معاني ودلالات تلك الكلمات.

 

فقد جاء في معجم المعاني أن من معاني السعي: العدْو، والجد، والنشاط، ومن دلالات تلك المعاني المبادرة والإسراع بالنية والعمل، ومن معاني الانتشار: التفرق والتشتت والانبساط وكلها تدل على التمدد، ومن دلالاتها أيضاً الضياع؛ ولذلك جاء الضابط لهذا التمدد وهو قوله تعالى: "وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ" ليبين لنا أن الانتشار ضرورة كونية مع وجوب الاعتماد التام على المسبب لئلّا يكون هنالك انفصام بين السعي والتوكل فيكون ذلك الانتشار سبباً للشتات وعرضة للضياع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.