شعار قسم مدونات

لماذا تعرفتُ إلى الموت بهذه الطريقة الكئيبة؟

blogs طفلة

تزورني في بعض الأحيان ذكريات ضبابية آتيةً من أطلال قصور طفولتي الغابرة، كمفاجأة مزعجة،
-لأحداث قد مضى عليها العديد من محاولات النسيان والمُضي قدماً في هذه الحياة الثقيلة .أشعر حينها بأنني كالتائه في غابة موحشة، غارق في الخوف من ثقل الشعور بقدوم تلك الرؤى المبهمة، ثم -وأنا في هذه الحالة من الضياع- تنبثق ومضات خاطفة كضوء البرق! فتظهر إمامي اظلال لأشكال غامضة لا أستطيع تميز تفاصيلها أو معرفتها.

 

أحياناً أهرب من إمام مثل هذه الزيارات المضطربة لذاكرتي ولقلبي بأسرع ما يمكن، وأحياناً أهدّىُ من روعي وانتظر القادم التالي منها رغم الجزع وضيق الصدر ! تبدأ الهمسات والظلال تقترب مني أكثر، تحيط بي لتضغط علي بإحساس قوي وغريب. بعد وهلة استشعر بأنها أطياف مألوفة لي، ولكنها ما زالت واهية الاكتمال والوضوح. ومتى ما أصبحت تلك الذكريات صوراً نابضة بالحياة تُعرض امامي كفيلم كامل، يُهاجمني سؤال الشك على حين غرة: هل حدثت تلك الأحداث في حياتي حقاً بتلك التفاصيل؟ أو أن عقلي المخادع – مع مرور الأعوام- أزال أجزاء من تلك الصور الحقيقية، وبدلها بخيالات أخرى وهمية وملتوية ! ليخفف بذلك من ثقل وطأتها المؤلمة التي قد تسحق الروح في لحظات الضعف فتزيد من بُؤس صاحبها .

 
كنتُ في الرابعة أو الخامسة من عمري، آنذاك، لا أذكر ماذا كان ذلك اليوم أو فصله السنوي ولكنني اذكر جيداً أنه في ذلك اليوم كانت المرة الأولى التي أتعرف فيها إلى شيءً أو كائن يُدعى (المـوت) . كان لي حينها اختاً صغيرة تدعى ( وردة ) والذي تسعفني بها ذاكرتي بشأنها هو إنها كانت طفلةً هادئة الطباع بهية الطلة، كانت بهجة البيت وعرسه، كان لها شعر اسود لامع ناعم لا يشبه شعري المجعد في شيء، لها بشرة بيضاء كالحليب الصافي، وكأن أشعة الشمس الملتهبة والحارة – التي تتميز بها ارضنا – لم تلمسها قط.

 

لم أدرك – وهي مُسندة بتلك الوضعية اللطيفة على كرسي السيارة – أنها ذاهبةً إلى مكان لا عودة منه أبداً! ظننتها ماضية في نزهة ما، فقد كان ركوب السيارة بالنسبة إلينا كأطفال في تلك الأيام يعني نزهة جميلة!

كانت ذات جمال لافت للنظر، فتبدو لي أحياناً كالأميرة "بياض الثلج " في عالم الحكايات، وخاصة حين يحلو لي أن أراها في خيالي وقد أصبحت صبيةة يافعة تُراقص الحياه بفرح.. في ليل ذلك اليوم استيقظتُ من نومي فجأة على غير عادتي! ذهبت مباشرةً نحو مهدها الصغير، نظرت اليها وتأملتها كالحالم الذي لم يستيقظ من نُومه بعد !! عدت الى فراشي واكملت نومي ببساطة.. لاستيقظ في الصباح على صراخ أمي المفزوع وهي تقول: لقد ماتت. لقد ماتت ابنتي!

 

لا أتذكر أنها كانت تقول (وردة) في ذلك النحيب المتواصل! أظنها قد عجزت عن نطق اسمها بعدما تيقنت أن طفلتها الصغيرة اصبحت جسداً بارداً لا روح فيه.. فتوقفت من بعدها عن قول اسمها! حتى بعد مرور أعوام وأعوام على ذلك اليوم .لم يبق أحد في الغرفة التي فيها " وردة" الجامدة. كنت أجري في تلك اللحظة خلف أمي التي كانت تتحرك بعشوائية جنونية في أرجاء البيت، وانا لا اعلم لماذا هي تبكي وتصرخ وتنتحب بتلك الطريقة المؤلمة المخيفة! اخيراً ضعف جسدها فجلست وهي تستند على جدار غرفةً أخرى، مُنكمشةً على ذاتها وجسدها، واضعة جبينها على مرفقها الممتد على ركبتيها الملتصقتين ببعضهما، مخفيه بذلك وجهها عنا، وهي تبكي بصوت مختنق بالعِبرات، يهمس في تكرار مؤلم: لقد ماتت.. ماتت.

 
لا أدري في إي لحظة أدركتُ أن الأمر كله يتعلق ب " وردة "، فذهبت اركض نحوها لأتفقدها، ولأفهم ماذا يعني (ماتت)! لتبكي أمي كل هذا البكاء المفزع ويبكي معها أهل البيت كله أيضاً! لقد رحلت وردة وعينيها مفتوحتين، كأنها كانت تنظر لشيء ما! لذا اعتقدتُ حين رايتها هكذا انها استيقظت لتوها من نومها، وظننت – بعقل طفل – أن أمي قد فهمت الأمر كله بشكل خاطئ. عدت الى أمي سريعاً وأنا أصيح في تعجب ممزوج بالفرح: اماه، تعالي، وردة مستيقظة، لقد رأيت عيونها الآن مفتوحة، والله إنها استيقظت!! تعالي.. أنظري بنفسك!

لا أعلم هل قامت إحداهن بسحبي من أمام أمي، أو انها هي قد طلبت مني ان اذهب بعيداً عنها !حين أخذوا "وردة " للذهاب بها الى المقبرة، كانت تبدو كالدمية النائمة، تُزين جبينها الصغير غرةً من شعرها الجميل، كان جسدها ملفوفة في قطعة قماش بيضاء تُشبه الملاءة الخاصة بالأطفال . ولكن كانوا يقولون إنه "الكفن". 

 
لم أدرك – وهي مُسندة بتلك الوضعية اللطيفة على كرسي السيارة – أنها ذاهبةً إلى مكان لا عودة منه أبداً! ظننتها ماضية في نزهة ما، فقد كان ركوب السيارة بالنسبة إلينا كأطفال في تلك الأيام يعني نزهة جميلة! قبلتها وودعتها مبتسماً ظناً مني انها سوف تعود قريباً. كلما تذكرتُ تلك الصغيرة المنسية التي لا اذكر كيف كانت ملامح وجهها بالتمام اسأل نفسي: هل كانت تحتضر ساعتها؟ هل كانت تتألم وتبكي؟ أو أنها كانت تنادي اُمنا لتحتضنها وتخفف عنها ألم الموت فأتيت أنا ! أو ربما كان الموت لطيفاً معها لأنها قطعةً من الجنة !

أتساءل موجوعاً في كل مرة تزورني فيها هذه الذكرى: لماذا استيقظتُ تلك الليلة وحدي دون غيري وذهبتُ إليها !؟ لماذا تعرفتُ إلى الموت بهذه الطريقة الكئيبة؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.