شعار قسم مدونات

يؤسفني أنّي لا أنسى!

blogs امرأة مضطهدة

جرّبت الكتابة بطريقةٍ أخرى لا تشبهني، وفشلت؛ لم أجدني في ثنايا السطور الّتي كتبتُ، غيرَ أنّها كانت تشبهني كثيرًا، أحاول الكتابة بإصرارٍ عنيد دونَ أنْ أقصِدَ فكرةً معيّنة، ولا شعورًا بذاته ليدفع بقلمي المتخمِ على الأوراق البيضاء. تغريني صفحات دفتري كثيرًا للكتابة، لطالما كنتُ مفتونةً بالدّفاتر، أشكالها، ألوانها، وأحجامها، يؤرّقني كثيرًا الدفتر الفارغ، وتتعبني صفحاته الخالية حين لا تمتلئ بسرعة.

كثيرًا ما أشعر أنّ الكتابة على وجهِ الخصوص بعضٌ منّي، وركنٌ أساسيّ من تركيبتي المعقدة.. حملٌ ثقيل سكنَ قلبي، وشيءٌ ينبغي أن يُرتكب، يُعاش، ولا يمكنني أبدًا الانفصال عنه، هذا ما ينبغي أن يكونَ حقيقة، وما لم يحدث. تعبيري عاجز تمامًا، تسقط منّي كلّ مفرداتي اللّغوية التي أحفظها، وتخذلني كلّ الأساليب الّتي أجيدها، لم تنفعني الآن كلّ الكتبِ الّتي قرأتُ، وأخيرًا لسانُ ضميري يقول لي ساخرًا: تحصدينَ جهدكِ يا ذكيّة! إنّني أتخبط لأكتب، وأكتب لأنّ الكتابة هيَ الجدوى الوحيدة لصبيّة هشّة مثلي.

إلَامَ أرمي الآن؟ ولماذا اخترتُ هذه الليلة الخالية من مصابيح الأفكار، وجذوة المشاعر لأكتب؟، وسؤالٌ ثالث يحشرُ نفسه، ما الجدوى من كل هذا؟! لا زلتُ أبحث عن جدوى لكلّ شيء أفعله، مثلًا: ما الجدوى من الاستيقاظ غدًا في صباحٍ باكر شديد البرودة، أعبر طرقًا غارقة بماء المطر وأقضي فيها معظمَ وقتي، حتى أصل -أخيرًا- إلى الجامعة وأسجل اسمي في قائمة معبّأة بالأسماء حتى آخرها!؟

أعترفُ أنَّ الجامعة قد أضفت مذاقًا آخر لحياة رتيبة شكّلتها لي أيام الحرب البئيسة، شعور أن تجلسَ على مقعدٍ دراسيّ لمدّة أربعِ ساعاتٍ أسبوعيًا تتدارسُ متنًا يقول صاحبه "كلامُنا لفظٌ مفيدٌ كاستقم"! كانَ يعيدُ إليَّ الحياة من جديدٍ بعدَ أن طال فقدي لها. لسان حالي يقول الآن: عليّ وضع خططٍ جديدة، هكذا أهمسُ لي، وأنفقُ نفسي فكرةً فكرة محاولةً ردمَ صدعيَ الواضح، وأخيرا أنجحُ في وضعِ كلّ شيء جانبًا لبداية فصلٍ جامعيّ جديد. لم أُشفَ من شيء، لا الذاكرة ولا التّفاصيل، وما زالتِ الخيباتُ تلتصقُ بظهري، أبذل كلّ ما تبقى من جهدي وتركيزي للمحافظةِ على توازنِ دراستي وتعليمي، أسلِّي نفسي بـ: قاومي، لم يبقّ إلّا القليل! …

 

كلّ تفاصيل الموت الّتي تركتها هناك تسير معي، أو تركض خلفي محاولة افتراسي كذئبٍ ضال يبحث عن فريسته وأنا أشقّ الطّريق بخوفٍ أزليّ

أشارف على إتمام الجامعة، حدثٌ جديد عليَّ الاستعداد لأجله، الزمن يسرقنا منا بسرعة مخيفة، وبشاعة دون أن ندرك؛ كم مضى من الوقت على خروجي من بنغازي؟ هل أذكر يوم غادرتها؟ ليلتي الأولى في طرابلس؟ منَ المؤسف أنّي أذكر كل هذه التّفاصيل وكأنّها البارحة، وتكوي الفؤادَ كلّ لحظة. طيّب، هل أذكر اليوم الأوّل من الحرب!؟ قلتُ في تدوينة سابقة أنّي عبثًا أحاول ولا أظفر إلّا ببعضِ التّفاصيل، وحقيقة الذّاكرة أنّها لا تنسى!

 

أذكرُ جيّدا أدراج الرّصاصات الأولى، أزيز الطّائرات، القصف المتواصل، والجنازات الّتي تُنصب في كل مكان في المدينة.. قلتُ ما قلت في تدوينتي السّابقة لتمويه بطشة الحقيقة، وتهرّبًا من تفاصيل كثيرة أتناساها عمدًا، وتقفزُ في وجهي دائمًا، يخيّل إليّ أنّي لا أنفكّ عن التحديق إلى الوراء، وأنّ كلّ تفاصيل الموت الّتي تركتها هناك تسير معي، أو تركض خلفي محاولة افتراسي كذئبٍ ضال يبحث عن فريسته وأنا أشقّ الطّريق بخوفٍ أزليّ.

تعود الآن ليالي شباط كعادتها باردة، خاوية، والأمطار تهطل بغزارة على بركٍ من الدّم، وأكتبُ صفحةً تلو الأخرى، الموت مازال يتربص ببنغازي، ومازالت هذه الجراح تُنكأ وأعرفُ أن شيئًا لن يرتقها، هذه المشاعر المتخبطة تمامًا كبنغازي، تذكرني ببيتينِ للرقيق فاروق جويدة، وقد عبثت أبياته بجرحي:

ما بينَ أحلامٍ توارى سحرها :: وبريق عمرٍ صار طينَ سرابِ
شاخت ليالي العمرِ منّي فجأةً :: في زيف حلمٍ خادعٍ كذّابِ

شاختْ في ربيعِ العمر أوطان، أحلام، وأشياء كثيرة أردنا أن نكونها، وأخرى كان من حقها أن تولدَ فينا، نعيشها، لكّنها نأتْ عنّا سريعًا ثمَّ ذوتْ وتلاشت. ما الّذي دفعني لكتابة كلِّ هذا؟ أهوَ الضّياع الّذي تكلّم عنه جويدة!؟ أجزمُ أنّه كذلك!

 

ويضيع عمريَ في دروب مدينتي :: ما بينَ نار القهرِ والإرهاب

ضاعت أوطاننا وضعنا، الكتابة الآن هيَ فعل قلّة حيلة، وجدواي الأخيرة يا سادة. الخِتام، رسالة قد تصل؛ عزيزتي بنغازي:

رغمَ انطفاءِ الحلمِ بينَ عيوننا :: سيعود فجرُكِ بعدَ طولِ غيابِ

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.