شعار قسم مدونات

بين عبق الماضي وألق الحاضر

blogs - people

نسمع مذ كنّا صغاراً من والدينا وممّن نالت منه السنون عن الزمن الجميل، فما تلبث أن تتجسد أمام نواظرنا صور الفنّ الراقي والجمال الجليّ البهي وصور محتفّة بالكمال عن الماضي إذ تتجسّد لوحاته لنا وإن لم تدركنا سنونه وأحداثه .وفي الجهة المقابلة نسمع من يحدّثنا عن التحرّر من سلطة الماضي، والاستجابة لمتطلبات العصر، وعيش اللحظة، عوضاً عن البكاء على أطلال ماضٍ أفل، ومجد رحل.
 
أمّا في تاريخنا الأدبيّ فقد كانت القضيّة الأبرز بين نقّاد الشعر في العصر العباسي هي الصراع بين الماضي والحاضر، بل إنّ كلّ فريق قد أصّل لذلك الأصول، واستنّ المعايير، ونصب الموازين، فخرج ما يُعرف عند النقاد التقليديين ما يسمّى ب " عمود الشعر" وعدّوا الخارجين عنه خارجين عن معايير الجمال والفنّ الراقي.
  
لم يقف الانتصار للماضي لأجدادنا النقّاد عند هذا الحدّ، بل أخذت العصبية بعضهم لنبذ الحاضر وأهله ولو كان الشعر ملتزماً بعامود الشعر المزعوم، وسنورد في ذلك مثالين يجلّيان بوضوح ما نعني: قال ابن الأعرابي: "إنما أشعار هؤلاء المحدثين مثل الريحان يُشمّ يوماً فيذوي ويُرمى به، وأشعار القدماء مثل المسك والعنبر، كلّما حركته ازداد طيباً" وقال عمرو بن العلاء العلّامة الأديب القارئ عن الأخطل :" لو أردك يوماً واحداً من الجاهلية ما قدّمت عليه أحداً" إذن فلا يوجد أيّ فرصة لشاعر معاصر في منافسة أجداده القدامى، اللهم إلا دار الزمان وعادت الأيّام للوراء، وهذا ما لا يكون! والعجيب أن هذا الكلام قيل في شعراء مثل: الأخطل، بشار بن برد، أبي نوّاس، هذه القامات العظام والجبال الشمّاء يُقال فيها مثل هذا، فكيف لو أدركوا شعراء زماننا!

 

مذهب المعتدلين

شيخ طريقة المعتدلين هو الأديب الأريب ابن قتيبة الدينوري في مقولته الشهيرة من كتابه الشهير " الشعر والشعراء" إّذ قال :" ولا لنظرت بعين الجلالة للقديم لتقدمه، وإلى المتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخره". وقال: "ولم يقصر الله العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خصّ به قوماً دون آخرين، بل جعل ذلك مقسوماً مشتركاً بين عباده في كل عصر، وجعل كلّ قديم حديثاً في عصره". وعلى هذا سار أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، إذ لا يخلو كتاب له من التغنّي بشعر المحدثين والإشادة بهم.

 

الشعراء تحت مقصلة النقّاد القدامى
هل حقّاً يخلو زماننا من العظماء؟ أم أنّ عقدة الزمن وانحدار أهله هي من جعلتنا نحكم بهذا الحكم؟ وهل استسلام البعض منّا للواقع الذي يضنّ بالقدوات سيحلّ مشكلاتنا؟

لم يدع عشّاق القديم للشعراء كثيراً من الخيارات، وإنّ الناظر في تاريخ الأدب والنقد يدرك جيّداً أنهما لا يسيران بخطّ متوازٍ، فقد يرتقي النقد ويرتفع في عصر ما ويتسفّل الشعر في العصر ذاته، وإنّ تفسير هذه الظاهرة قد أعيا النقّاد كبيرهم وصغيرهم! ولأن الشاعر يتعبّد في محراب الجمال، ويتخذ التأثير وسيلته وطريقته ليحفر في وجدان الناس ويحفّز مخيلتهم فإن الشاعر استجاب للعصر، ونبذ التقليد، ورسم تجربته، وغنى بعيداً عن هرطقات كثير من النقّاد .ولعلّ خير من انتصر من الشعراء للجديد- وهم كثر بلا شك- أبو نواس، ولعلّ أوّل خرم أحدثه أبو نواس في عمود الشعر هو ثورته على المقدمة الطلية التي غدت سنّة الشعراء وطريقتهم.

 

عاش الأجداد حياة البدو والتنقّل وعاينوا الأطلال، أمّا أبو نواس فقد عاش حياة مدنيّة وعرف الخمرة والجواري والنساء، بل زد على ذلك فإن أبا نواس عاش حياة إباحيّة كانت اللذّة عنوانها وطريقتها، ثم إنّه رأى الانفصام الذي يعاني منه شعراء عصره حين قلّدوا وفرّغوا الفنّ من مضمونه ومحتواه، وإن طريقة أبي نواس كانت السخرية من هذا الواقع الذي وصل إليه الشعراء:

"عاج الشقيّ على رسم يسائله…. وعجتُ أسأل عن خمّارة البلد
قالوا ذكرتَ ديار الحيّ من أسد… لا درّ درّك قل لي من بنو أسد"

 

وقال:

قل لمن يبكي على رسم درسْ .. واقفاً، ما ضرّ لو كان جلسْ"

 

لا شكّ أن طرق التحرر قد أخذت مناحي متنوّعة في الشكل والمضمون، فقد عرفنا طريقة مسلم بن الوليد، وطريقة أبي تمام، وطريقة المعرّي، والمتنبي، والبحتري، وانتصر الحاضر آنذاك، ثم انقضت تلك السنون وأهلها ليصبحوا في أنظارنا من ثلّة القدامى.

  

ورائيّات

هل حقّاً يخلو زماننا من العظماء؟ أم أنّ عقدة الزمن وانحدار أهله هي من جعلتنا نحكم بهذا الحكم؟ وهل استسلام البعض منّا للواقع الذي يضنّ بالقدوات سيحلّ مشكلاتنا، ويقضي على جذور تخلّف مجتمعاتنا؟ بالمقابل :هل نتصوّر مستقبلاً من دون رجوع للماضي؟ وأين أبناء اليوم من صراع الهوية الضائعة؟

 

ختامأً
الصراع لم ينتهِ ولن ينتهي مادام الزمان يعيد دورته ليجعل الحاضر ماضياً والمستقبل حاضراً، وإن العاقل من يستفيد من تجارب الماضي ويلبّي متطلبّات الحاضر فيأخذ من الماضي التجربة والمراس ومن الحاضر المرونة .

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.