شعار قسم مدونات

الاستدلال الاستقرائي والاستنباطي ووشيجتهما بالفتاوى الفقهية

مدونات - قرآن

تتبنى الفلسفة المشروعات أي كل ما هو مُطلق، ومن ضمنها (السؤال) الذي ينيخ تحت صولة المطلقية والذي بدوره يسوقُنا للتساؤل بكونه من المنطقيات المحدودة (الموضوعات)، والتي هي الأخيرة تأطرها الفلسفة من تعاملها بالمطلق لوضع المحدود وهو ما يُسميه أفلاطون (الجدل الهابط)، إذ يعتبر التساؤل المسوّغ الأول والأخير لجعل المفتون يسترون بعض هذه التساؤلات بعد أن كانت عارية، ببعض الفتاوى الكبرى منها والصغرى بالاستدلال الاستقرائي بشكل عام والاستدلال الاستنباطي بشكل خاص والذي يدخل ضمن وجوبهما التفسير الذي يعتبر المرجع للاستدلال الاستقرائي والاستنباطي بعد النص القرآني والأحاديث النبوية (السّنة النبوية) كمصدر أولي، والاجماع والقياس والاجتهاد كمصدر ثانوي، ضمن أدوات فلسفية تقودهم بدورها إلى بلوغ الاستنتاج الذي يستلزم أن يكون مُتماهيًا مع الأحكام الشرعية الواجبة منها والمستحبة وغيرها، لتحري اليقين من الباطل بحلاله وحرامه ووجوبه وندبه وكراهيته.

  

من أجل ذلك يتراءى لنا أن النّص القرآني نصٌ مُطلق أي خارج حدود المنطق المحدود (مشروع قراءة)، أي من المشروعات لا الموضوعات ليتعامل معه ذوي العلم بفهمهم المطلق وأحكامهم المنطقية، وبالتالي يمكن اعتباره المحرك الأساس لمضمار العلم والمعرفة باعتباره مشروع استكشافي وإلا لاقتصر الأمر على فقه الأولين دون حاجة لفقهاء جُدد وفتاوى جديدة.

 

قامت المدرسة الحنفية في الأُصول على الاستدلال الاستقرائي، فمُنظّروا الأصول من علماء الحنفية قاموا باستقراء فتاوى أئمتهم السّالفين، ليستخرجوا من ذلك المعاني والضوابط التي التزموا بها في فتاواهم

في بادئ ذي بدء، يعرّف الاستدلال بأنه وسيلة فكرية تتم بواسطة استنتاج (الفتوى) عبر حكم واحد أو عدة أحكام (المقدمات)، أي إدراك معارف جديدة من المعارف المتواجدة (القديمة) السائدة بين الناس وهو ما يسمى (استنتاجاً) سوء كان ضروريًا أو احتمالاً بالإمكان أو الاستحالة، وكل استدلال يفترض وجود مقدمات ونتيجة، والمقدمات في هذا المنحى (الفتاوى الفقهية)، القرآن والسنة كمقدمات كبرى، ثم الإجماع والاجتهاد والقياس كمقدمات صغرى، بشرط أن يكون هناك رابط مشترك مكين بين المقدمتين (الكبرى والصغرى)، وهو ما يسمونه بالرابطة المنطقية، ومن هذه المقدمات بنوعيها نتحصل على المحصلة والتي تعتبر حكم جديد بطريقة منطقية، أي استنتاج نتيجة من الأحكام (المقدمات) لتغدو بعد ذلك هي ذاتها حكم جديد، بضربيه المباشر والغير المباشر.

 

من طرق الاستدلال التي يعوج إليها العقل الإنساني قصد كسب المعرفة وإدراك نتائج التساؤلات تعود في أصلها إلى قسمين، هما:

استدلال استقرائي واستدلال استنباطي.

 

– يُعرّف الاستدلال الاستقرائي أنه استنتاج حكم كلي من تتبع جزيئاته، فهو استدلال استقرائي تام، وهو قليل الوقوع، وإن كان الاستدلال على الكلي ببعض جزيئاته، فهو استدلال استقرائي ناقص وهو الأكثر وقوعًا. إذ يقوم على أساس أو مستلزمات منها التجربة والمشاهدة والملاحظة ووضع الفروض والبراهين في حالة الاستدلال الاستقرائي التام، وجمع ما يمكن جمعه من الملاحظات، قصد بدع فتوى أو قانون عام جامع للمعاني الكلية لمختلف الجزيئات من ذات النوع.
 
والاستدلال الاستقرائي تكون فيه النتيجة أكبر من المقدمات وتكون أيضّا احتمالية غير مطلقة أو ظنية وقابلة للخطأ، وكثيرًا ما يُسميه الفقهاء أنه: إلحاق الفرد بالأعم الغالب". فالاستدلال الاستقرائي ينتقل من ظواهر الطبيعية الواقعية والقائمة على مبدأ العلية والاطراد، إلى القوانين الطبيعية التي أوجدها الله في الكون، وعمل الإنسان على اكتشاف هذه القوانين التي كان لها الأثر في التقدم العلمي للإنسان عن طريق التجربة.

 
و ابن تيمية نادى بهذا الطريق العلمي للوصول إلى اليقين؛ إذ إن مصدر العلية عنده هو الخبرة الإنسانية، وهذا يعني أننا لا نصل إلى التصور أو النتاج بالاستدلال المنطقي، كما أنّ العلية ليست فكرة قبلية راسخة في الذهن، ولكنها فكرة تأصلت في الأذهان بعد الملاحظة المتكررة بين حادثة وأخرى أو ظاهرة وأخرى.

  undefined

 

ومن الآيات التي أشارت إلى قانون العليّة، الذي يمثل الأساس الأول لتسويغ التعميمات الإستقرائية، قوله سبحانه وتعالى: "أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَىْءٍ أَمْ هُمُ ٱلْخَلِقُونَ"، وكذلك من الآيات التي أشارت إلى قانون الإطراد في الكون، الذي يمثل الأساس الثاني لتسويغ التعميمات الاستدلالية الاستقرائية، قوله تعالى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ(40)".

فمثلًا: إذا تعقّبنا كلام العرب ولسانهم، لوجدنا أنّ كل فاعل في اللغة مرفوع، فنستخلص من ذلك قانونًا عاماً مُفاده: أنّ (كل فاعل مرفوع)، وهي نتيجة كلية أو استدلال استقرائي تام. استعمل القرآن الكريم الاستقراء بنوعيه: التّام والناقص، ولكن أكثر استعماله للاستقراء الناقص، وأعطاه دلالة قطعية في إثبات بعض سنن الله تعالى في الكون، وفي حياة البشر وإقرار بعض العقائد، وصفات الذات الإلهية. فمن الآيات التي أتخذ فيها القرآن الكريم المنهج الاستقرائي للاستدلال قوله تعالى: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ).

وأيضًا القواعد والضوابط الفقهية يقوم الجزء الأكبر منها على الاستقراء، إذ نوعان: قواعد مقتبسة من النصوص الشّرعية، مثل "لا ضرر ولا ضرار"، و"الأمور بمقاصدها"، وهذا يمثل جزءًا يسيرًا من القواعد الفقهية. فقد استخدم علماء المسلمين الاستدلال الاستقرائي كمطية اعتمدوا عليها في دراستهم، ففي علم أصول اللغة نجده _الاستدلال الاستقرائي_ حاضرًا في كثير من مباحثه، بل يعتبر المستند الأساس لعُلماء الأصول في بعضها. فالمدرسة الحنفية على سبيل المثال لا الحصر قامت في الأُصول على الاستدلال الاستقرائي، فمُنظّروا الأصول من علماء الحنفية قاموا باستقراء فتاوى أئمتهم السّالفين، ليستخرجوا من ذلك المعاني والضوابط التي التزموا بها في فتاواهم).
 
كما أعتمده الفقهاء في أبواب كثيرة من الفقه الإسلامي، كإحصاء أنواع المياه، وتحديد دماء الحيض والنَّفاس والاستحاضة، وتحديد أقصى مدة الحمل، والاستدلال على عدم فرضية صلاة الوتر. وعلى غرار ما سلف اتخذ أصوليّوُ مدرسة المتكلمين الاستدلال الاستقرائي في إثبات ظنية دلالة اللفظ العام على أفراده، فقد استقروا العمومات الواردة في القرآن الكريم فوجدوا أكثرها قد خُصّص، فقرروا أنّ دلالة العام على أفراده ظنية، وذاع وشاع عنهم في ذلك قولهم "إنه ما من عام إلا وقد خُصص".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.