شعار قسم مدونات

نلتقي لنفترق!

blogs فراق

لا نُفطَم مرة واحدة، السنوات الأولى لنشأتنا هي تمهيدات وحوادث مصغرة تكبر كلما كبرنا، وتفطمنا الحياة مرة بعد مرة مع تتالي مراحلها، البعض يبقون صغار عقول ولا يتقدم بهم إلا العمر، والبعض الآخر يستوون على مهل، لكن التعلق هو هو، لذلك يكون كل فراق مُرًّا ومؤلمًا. والإنسان ينضج بمثل هذا. فعدد السنين لا يمثّل العمر، بل عددُ المرات التي يُفطم فيها المرء من قِبل الحياة لتُوقفه على قدميه وتٌعلّمه كيف يركض بمفرده وينفض ركبتيه بعد كل عثرة. ويكون الفطام الأكبر والأخير هو الموت الذي ينقله من المرحلة الدنيا إلى الآخرة انتقالا سهلا سلسا أو انتقالا يشبه انتشال كومة صوف من منبت أشواك، فيقال "فلان فارق الحياة".

"نلتقي لنفترق" عبارة كان يرددها أستاذي منذ سنوات، تراودني دائما مثل صلاة تُضمّد القلب المشروخ، وتعمل عمل الترياق لأنّني كنت بنيت لها معنى ينبض أملا. فلقاءاتنا، كتقاطع مستقيمين أو تقارب منحنيين، لا تستمر إلى الأبد. مقدر لنا التعايش هناك وتبادل الخبرة والمنفعة ولكن ليس مقدرا لنا التماهي والانصهار حد الانقلاب واحدا بعد اثنين. مع أن مستقيمين متوازيين ينطبقان لزوما إذا اشتركا في نقطتين. وذلك هو الأمل الوحيد؛ اللقاء الثاني مهما يَطُل انتظاره سيكون بشرى مطَمْئنة أن التعلق الحاصل في نقطة الالتقاء الأولى لم يكن يجرّنا إلى الوراء بل كان يثبّت مسارنا في الاتجاه الصائب. إلا إذا كان المساران يرسمان ظفيرة، أي يتلقيان ويفترقان ويلتقيان ويفترقان ويستمران على هذه الحال.

يقول شاعر: "مَا سِرْتُ مِيلًا وَلَا جَاوَزْتُ مَرْحَلَةً .. إِلَّا وَذِكْرُكَ يَلْوِي دَائِمًا عُنُقِي"، ذلك أنّنا حين نحبّ بعمق نسلّم قلوبنا بإخلاص وصدق غافلين عن احتمالية وصولنا مفترق الطرق التي يفترض بها أن تكون مطروحة دوما درئا لشقاء الهجر وعذاب التمزّق.

أتوجّس خيفة يا مولاي. أولئك الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعا لا تجعلني منهم ولا بينهم. اجعلني أنا، كما أنا، احرس قلبي من التقلبات على غير ما يرضيك ويسُرّني
أتوجّس خيفة يا مولاي. أولئك الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعا لا تجعلني منهم ولا بينهم. اجعلني أنا، كما أنا، احرس قلبي من التقلبات على غير ما يرضيك ويسُرّني
 

وبحمد الله بالأمس كنا وغدا نكون واليوم نحن. نعيش بيقين أننا داخل منظومة قوامها التوازن لا الفوضى، خُلِقَت بقَدَر لا بصدفة، فكل الحادثات أقدار موزونة، وكل العلاقات جعلت لسبب وغاية آنيّة أو لاحقة. فكم قد عرفنا (وسنعرف) أشخاصا لم نرافقهم أو يرافقونا إلا قليلا، ولكننا تعلمنا منهم أو تعلموا منا، واستفدنا أو أفدنا، سواء كانت علاقات جيدة أم سيئة. ولكن لابد من فراق. والفراق فطام، "وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا" (1)، رقيقا حين ترِقُّ عواطفه، غليظا حين تغلُظ "وإنّ شراستك كلها إنما هي لإخفاء قلب هشّ" (2). ولو كان خير لبقى، والله خير وأبقى.

الضعف مهين. الواقع يصفع بقوة. الشك طريق اليقين. التعلق بالمخلوق هوّة. حين كتبت ما سبق جال بخاطري أن المثال الذي قد أضربه عن المحبين قاصر جدا وتافه أمام لحظة إدراك العبد حب الله له وانتظار إنابته إليه بعد غفلة أو معصية. لا سبيل للمقارنة! وقد جاء في الأثر: "يا داود لو يعلم المدبرون عني انتظاري لهم، ورفقي بهم، وشوقي إلى ترك معاصيهم لماتوا شوقا إليّ ـولتقطعت أوصالهم لمحبتي، يا داود هذه إرادتي بالمدبرين عني فكيف بالمقبلين علي."

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ "أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ حَيْثُ يَذْكُرُنِي. وَاللَّهِ لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ يَجِدُ ضَالَّتَهُ بِالْفَلَاةِ. وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا وَإِذَا أَقْبَلَ إِلَيَّ يَمْشِي أَقْبَلْتُ إِلَيْهِ أُهَرْوِلُ." (3)

أتوجّس خيفة يا مولاي. أولئك الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعا لا تجعلني منهم ولا بينهم. اجعلني أنا، كما أنا، احرس قلبي من التقلبات على غير ما يرضيك ويسُرّني، رضيت بما قسمته لي وسأرضى بالفهم الذي رزقتنيه وأعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم، وكّلتك أمري فاختر لي ولا تخيّرني واكتب لي الخير حيث كان ثمّ رضّني به.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهامش
(1) سورة النساء، 28
(2) غسان كنفاني
(3) مسلم عن أبي هريرة

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.