شعار قسم مدونات

"عبيد" ملكوا أمر حياتنا!

مدونات - بشار

«الوطن العربي قليل عليك.. أنت لازم تقود العالم كله يا سيادة الرئيس» فصفَّقَ لنفسِه منتشيًا، وصفّق له جمعُ القطيع مستبشرًا؛ فرسموا الابتسامة على وجهِ سيادة الرّئيس، زعيم العالَم. عبارةٌ عمرها سبع سنوات، هي بنت سوريا الأسد، ومرادفة للأسد أو لا أحد، وإنْ شئتَ للأسدِ أو نحرق البلد، هي أشهرُ مِن الأمل، وأبعد مِن زحل، وأشهىٰ -عند العبيد- مِن العسل، قيلت في إحدىٰ الجلسات الرَّوحانيَّة الوجدانيَّة لأعضاء مجلس (الشعب) السوري، على لسان عجوز عاجزٍ عن كلّ فضيلةٍ كمجلسِه، ترسّخَت في أغوار نفسه معاني العبودية، وتربّعت على عرش قلبِه وحسِّه، فملكته كلّه:

وحَلَّتْ بأعلىٰ شاهِقٍ مِنْ فؤادِهِ
فلا القلبُ يَسلاها ولا النَّفسُ ملَّتِ!

 

أرجو المعذرة مِن الشّاعر ومحبوبتِه!

 
عندما أقدم الرئيس الأمريكي، لنكولن، على تحرير العبيد، واجه خصومًا حاربوه وثاروا عليه، كان مِن بينِ أولئك الثّائرين، بعض العبيد الذين كانوا يعانون -مع بؤس الاضطهاد والظّلم- تعاسة الفقر والجوع؛ ومع ذلك كرهوا عيش الكرامة، ورفضوا كلّ حركةٍ تأخذُ بهم إلى ميادين الحريّة، وناهضوا كلّ عمل يسعىٰ إلى تحريرهم مِن قيود السّادة وأصحاب المال والسلطة؛ ألِفوا بريق الأغلال في أعناقهم، وأطربهم صوت السلاسل في أقدامهم، فما كان منهم إلّا أنْ يذودوا عن أسوار عبوديّتهم، ويجودوا بأرواحِهم رخيصةً في سبيلِها.

 

العبوديّةُ حاضرةٌ في كلِّ زمانٍ ومكان، تختلفُ في أشكالها، وتتفاوتُ في كيفيّتها ونوعيّتها، ولكنّها لم تكن ظاهرة ومستفحلة كما هي في أيّامنا هذه؛ إنّنا نشهدُ (عبوديّة مختارة) كما عبَّر عن أشباه هذه الحالات المنافيةِ للفطرة والطّبيعة الإنسانية، الكاتب الفرنسي إتين دي لابويَسي، في كتابه الذي يحمل العنوان نفسه (العبودية المختارة) أو (..الطوعية). وإنّه ليُخيَّلُ إليَّ أنَّ الفرنسيَّ لابويسي ما عزم على تأليف كتابه، إلّا بعد سماعه أحد (المُطَبِّلين) في عصرِه يقول لحاكِمه: أوروبا الغربيّة قليلة عليك.. أنت لازم تقود العالم كله يا سيادة الريّس!..

 

لا يفقهون في حياتِهم شيئًا، إلّا تقليب وتقبيل بسطار العسكر، والانحناء له حُبًّا وصِدقًا؛ فالمودة والعلاقة بينهما مريبة؛ عزَّ تفسيرها، وأعيت عقول فلاسفة العرب واليونان

إنَّ الإنسانَ ذو الفطرةِ السّوية، يأبىٰ الظّلم بكلِّ أشكاله ويرفضه، وتتأذّىٰ روحه وتتألّم، إذا رأىٰ أحدًا يُظلَم فضلًا عن أنْ يَظلمه أحد، أمَّا أنْ يرىٰ الإنسان حاكمه يستبدّ ويتسلّط على شعبه، ويرمي بهم نحو المجهول، ويسقيهم كؤوسًا مترعات بمرارة التشريد والمنافي، وفائضات بالأسىٰ والعناء، ثمّ يحسبه نصرًا وظفرًا.. بل فتحًا مبينًا؟ أنْ يرىٰ الإنسان حاكمه يسلب أمواله أمام ناظريه، ويزجّ بالمُصلحين والصٔالحين في السجون أمام عينيه، ويُطبّعُ مع المُحتلين الغاصبين سرًّا وعلانية، ويحارب ثقافة مجتمعه وعاداته، ويصبح إعلامه مَصدرًا ومُصدِّرًا للانحلال الأخلاقي والفساد الاجتماعي.. أنْ يرىٰ هذا كلّه ثم يقول: لله در مولانا ما أحدَّ ذكاءه، وما أحسن صنعه! ما فعل هذا إلّا لدهائه العظيم، وفطنته البالغة، التي أخذها عن آبائه وأجداده!.. فإنْ خَفِيَت علينا الحكمة مِن أفعال مولانا (يقول العبيد) فهذا لقصور فهمنا، وخفّة عقلنا، وضحالة فكرِنا!

فهذه والله عبوديّة مختارة مقيتة، جعلوا سادتهم من أهل السّماء، وفي عصمةٍ من الأهواء، وهم في الطوفان غرقىٰ.. يقول لابويسي: «إنَّنا لا نولدُ أحرارًا وحسب، بل نحنُ أيضًا مفطورون على محبَّةِ الذود عن الحريّة». ولا إشكال في سلامةِ قوله، وأحسن منه ما دعانا إليه الدين الحنيف، الذي أخرج النّاس من عبادةِ العباد، إلى عبادةِ ربّ العباد، وجعل العبودية في جوهرِها ولبّها خالصة لله تعالى؛ولكنّ الفطرة فسدت في بعض المجتمعات، وشذّت أفكار أكثر أفرادها، وانقلبت المفاهيم والحقائق، وتزعزت الثّوابت واهتزّت، وشطّت الآراء وغرّبت..

 

إنَّ قوافلَ العبيد في زماننا صاروا يتهافتون على أصحاب المعالي والجلالة، ويبحثون عن أسباب الذّل ومعاني الهوان عند أبوابهم، لينالوا قسطًا من الاستحقار والإهانة، ومِن ثمّ يخرجون صاغرين من عندهم، فإذا سمعوا -في طريقهم- مناديًا يُنادي للحريّة؛ آذوه، ونكّلوا به تنكيلًا، وأمعنوا في تعذيبه، تقرّبًا وإرضاءً لسادتهم؛ والسيِّد ذو كبر، في طبعِه ملل، لا يثقُ بأحدٍ مِن حاشيتِه وخدَمِه، فإذا تمَّ له ما يُريد منهم، قذف بهم بأصبعه، كما تُقذف البعوض، وركَلِهم بحذائه، كما تُركل الدواب، وتخلَّصَ منهم، واستبدلهم بقومٍ آخرين؛ غير أنَّ العبيدَ لا يجدون في أنفسهم حرجًا وضيقة، بل لذّة وغبطة؛ فهم يرونَ في التّحرر من قيود المخلوقات جريمةً وتمرّدًا، وفي العزَّةِ أمرًا مريبًا، وشيئًا غريبًا يضرُّ بالصّحّة، ويجلب الأوصاب. 


هؤلاء لا يفقهون في حياتِهم شيئًا، إلّا تقليب وتقبيل بسطار العسكر، والانحناء له حُبًّا وصِدقًا؛ فالمودة والعلاقة بينهما مريبة؛ عزَّ تفسيرها، وأعيت عقول فلاسفة العرب واليونان؛ وإنّه ليَتردّد أحيانًا إلى مسامعي صوت أنَّات شجيّة محزنة، جهلتُ مصدرها؛ حتّى تتبّعتها، فعلِمتُ أنّ فرويد -لعجزِه عن فهم كنه دوافعهم- ينوح في قبره كلّما وصله خبرٌ عن عبيد عصرنا.. ثمّ إنّهم يتنافسون بينهم ليُذيقوا الأحرار أشدّ العذاب، وأمرّ العقاب؛ فإذا تمكَّنوا أفسدوا وتكبٰروا، وإذا قدروا بغوا وتجبّروا. والحديث عن العبيد، يحتاج نفَسًا طويلًا، ومجاهدة ومصابرة، فلا أثقل على النّفس منهم، ومن الكلام عنهم.

 

ختامًا، يقول -مَنْ نغَّصَ في حياته وبعد مماتِه، على العبيد عيشهم- سيد قطب: «وقد دلَّت التجارب الماضية على أنَّ النصرَ كان للحريَّةِ في كلِّ معركةٍ نشبت بينها وبين العبودية. لقد تدمى قبضة الحرية؛ ولكنَّ الضربة القاضية دائما تكون لها. وتلك سنة الله في الأرض، لأنَّ الحريةَ هي الغاية البعيدة في قمة المستقبل، والعبودية هي النكسة الشاذة إلى حضيض الماضي!».

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.