شعار قسم مدونات

من تونس إلى فلسطين.. لن نكون من القاعدين

مدونات - فلسطين
ما انفكت أرض الإسراء المعطاءة، تجود على أمتها والإنسانية جمعاء بالمبعوث يتلوه المرسال، للتذكير والتثبيت، وهي الخنساء التي لا تثنيها آلامها، عن عزائم الأمور والتحريض، تأبى على فلذات أكبادها، إلا أن يكونوا في المحرقة شموعا لا حطبا، تذوب منيرة سبل الرشاد والأمجاد. ورسولها الأخير وليس الآخر، بطل وفارس همام، لم يترجّل بل ارتقى فرجلاه كسيحتان، وكأني بروحه الزكيّة بعد الشهادتين تذيب الكون إنشادا، لأبيات شاعر الخضراء: "سأعيش رغم الداء والأعداء كالنسر فوق القمة الشماء". حاولت استقراء صورته تلك وفك رموزها، إيمانا منّي، بأنها حبلة في ثناياها، بخلاصة حقبة بأكملها، وحاملة لسرّ الخلاص في محيّاها. فما أسعفتني النباهة، إلا بعدما استحضر ذهني شقيقتها، بل توأم روحها، أعني ذاك القعيد الذي كدح في تونس إلى الاقتراع والصندوق، تاركا ملايين من خلّانه، وهم في المقاهي القعداء.

  

فما هي فحوى الرسالة ومغزاها؟ وإلى من وجه صرختها هذان البطلان؟

ولعمري لو إستنّ، أرهف الرسّامين حسّا ريشته، ومراده تجسيد حال همّة الأمة وعزم أبنائها، في صورة حسّيّة مجرّدة، لما كانت لوحته أبلغ تعبيرا ولا أدقّ توصيفا، من صورة هاذين الهُمامين الإثنين. فثقافة اقتحام الصعاب، والجرأة والإقدام على تجشّم أعباء النصر وتكاليفه، والصبر والمصابرة على طول دربه والتواءات طريقه، والثقة بالنفس واليقين بالفوز ولو غاب بصيصه. كلّ تلك المعاني تؤسس لإيمان بالقدرة على مواجهة الأوضاع القائمة، بل وعوض أن نكون مجالا لفعلها وتأثيرها، نعيد تشكيلها على الشاكلة التي نريد. وذاك هو منطق المتوكّلين لا المتواكلين، وتلك هي ثقافة المواجهة والاقتحام التي قال فيها رب العالمين: "ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ".

  

وإن هذه الثقافة ولئن تجلّت في هاذين المكافحين، لتنبأ بأنها في هذه الأمة خليلة وسليلة، باقية في توهّج وإتّقاد إلى يوم يبعثون، إلا أنها مثلهما، كسيحة مبتورة الساقين، ترزح بالأعباء وتنتفض من تحت أركام التراب، وتتململ مثقلة بغبار التقاليد البالية وحطام التراث. ىفقد تسربت لنا من عصور الانحطاط، ثقافة أخرى، مسرفة في التخويف والتيئيس، حتى كبّل تعظيم الأعداء وتضخيم المصاعب، بالمحاذير كل تجارب النهوض ومساعي التغيير.

  

إن عمّت اليقظة وتفتّحت العيون ثم انعقد العزم على المواجهة، انقطعت أسباب الهزيمة، حتى وإن لم نجنِ ثمارها، فيكفينا شرفا أن نموت ونحن في سائرون
إن عمّت اليقظة وتفتّحت العيون ثم انعقد العزم على المواجهة، انقطعت أسباب الهزيمة، حتى وإن لم نجنِ ثمارها، فيكفينا شرفا أن نموت ونحن في سائرون
  

فساد بين الشباب منطق الهروب من الواقع والقعود عن تبديله، فمنّا من استأنس بمخدّر أو حانة تلهيه، ومنّا من ارتمى بين الأمواج وقد خال، أن هجر الديار من واقعها ينجيه، ومنّا من اتخذ من التأسلف أو التصوّف أفيونا وقوقعة تنسيه، وأما الباقي ففي اللمم والسفاسف واللغو انغمس، فأضحى الشأن العام وكبائر الأمور، شيء لا يعنيه. وإنه الإطناب في تعداد عناصر التعقيد وذكر العراقيل ما يكردس في النفوس أكوام التشاؤم بعضها فوق بعض، حتى يحتجب شعاع الأمل وينسدّ بالذرائع الأفق. ولا استغراب بعد ذلك، إن انعقد الإجماع على القعود، الذي أضحى من الحصافة وبعد النظر، بل وصارت محاولات الإصلاح والتغيير موصوفة بالسذاجة مذمومة، فما هي في عرف القوم، إلا تبديد للوقت والجهد، لا طائل من ورائها ولا فائدة ترجى منها ولا نفع. وبهذه السّلبيّة في التعامل مع الطبيعة والمجتمع، تتكون أرضيّة خصبة لتبريرات التسليم والركون للخنوع أو الانتحار والهروب بأشكاله المختلفة.

  

والخلاصة أن رسالة المقعدين، من تونس حتى فلسطين، ما كانت للظلم والظلّام، بقدر ما هي موجهة للخانعين المظلومين، ومن تخلّف وراءهم، عن محطات الكفاح والنضال، من أترابهم المتقعّسين القاعدين، الذين لولا أن الاستبداد اطمأن لخنوعهم ونعستهم السادرة واستشراء قابلية الاستعمار في نفوسهم، لما استخفّ بهم ولا استحل حقوقهم وأملاكهم، ولما وجد أذنابه موطئ قدم بين صفوفهم، فإن عمّت اليقظة وتفتّحت العيون ثم انعقد العزم على المواجهة، انقطعت أسباب الهزيمة وانزرعت بذرة النصر، التي حتى وإن لم نجنِ ثمارها، فيكفينا شرفا أن نموت ونحن في طريقها سائرون. و بصريح العبارة، فإن الشهيد فادي أبو صلاح وأخوه التونسي، مثّلا إشراقا جديدا لثقافة المواجهة، هاتك لحلكة ذرائع الهروب، وقاطع كل سبيل عن مبررات التهرب من المسؤولية.

  
والأمة اليوم في خضم التحولات الكبرى وإعادة تشكيل الخرائط، بين خيارين لا ثالث لهما، فإمّا أن تستمسك بأمل النهضة حتى تنبت لإرادة المقعدين سيقانا، فتقتحم النظام العالمي الجديد وقد شقّت لنفسها فيه طريقا نحو القمم، أو أن تخضع لنداء التخويف الذي يصطنع لها غيلانا تكبّلها، فتخنع مع القاعدين وتقرفص بين الحفر. رافعة شعار بني إسرائيل، عندما أمرهم موسى عليه السلام بدخول الأرض المقدسة: "قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.