شعار قسم مدونات

لن نعود.. سنكون كالجيل الذي هاجر أيام الثمانينيات!

مدونات، الغربة

الخامس منَ الشَّهرِ الخامسِ والعاشر منَ الشَّهرِ العاشرِ يومانِ سيِّئا السُّمعةِ. يومانِ مغضوب عليهما، يسيرانِ في عمري مشرَّدَينِ بلا مأوى، يجوبانِ كلّ حانةٍ وسجنٍ وأزقَّةٍ موبوءةٍ، ويفتِّشانِ عنِ الكوارث. ربَّما كانا بدايةً لكلِّ كارثةٍ في هذه الرّوح! جملة الرّوح المبهمة، المبنيَّة على الغيابِ والهجرةِ، لَنْ يُحسِنَ فهمها سوى رقمين عبَثَا بماضيها ومستقبلها. هل تملكُ الأرقامُ دوراً مهمّاً في تحديدِ المصيرِ؟

ما زالَ في مسمعي صوتُ جدّتي حينَ كانتْ تروي لي حكايةً عنْ أحد شبابِ عائلتها. كثيرونَ كانوا مَنْ اختُتِمَتْ قصّتهم بعبارةِ: "لقد هاجرَ أيّام الثّمانينيّات، ولمْ نعدْ نسمعُ عنهُ شيئاً". هلْ نغدو جيلاً جديداً ممّن هاجروا أيّام الثّمانينيّات؟ بالمناسبة، هل هاجروا بالفعل، أم هُجِّرُوا؟ مَنْ عادَ يذكرُهم سواها، جدّتي الّتي ما إنْ أطلَقَتْ عنانَ روحِها، إلَّا وتذكَّرَتْ كلّ مَنْ امتلكَ نصيباً منها يوماً ما.

بعيدونَ عنِ العينِ.. بعيدونَ عنِ القلبِ، مَنْ يُنْكِرُ ذلك؟ بالمقاربةِ بينَ الحالتينِ نجدُ أنَّ النِّهاية ذاتها والمصير ذاته، في المستقبلِ سنصبحُ حديثَ النَّاسِ حينَ يجتمعونَ في أرضِ الوطنِ، كلامَ مَنْ يمشونَ في الشَّوارع، الحوارَ الشَّيِّقَ بين مَنْ يدخِّنونَ في المقاهي، النِّقاشَ الجميلَ بين شبابِ العائلةِ، سنكونُ موضوعَ الجلساتِ بين الحين والآخر، سيتذكَّرُنا النَّاسُ مرَّةً كلّ عامٍ أو كلّ عامين، سيتكلَّمونَ عنَّا بكلّ شوقٍ ولهفةٍ وأسى، سيتذكَّرونَ أدقّ التَّفاصيل وبعض ملامحنا وما كنَّا عليه، سيروونَ لأصحابِهم أنَّنا هاجَرنا خلال الحرب، ولَمْ يسمعوا بعدَها عنَّا شيئاً.

سيعودُ السُّؤالُ مرَّةً أخرى.. هَلْ هاجَرنا بالفعل، أمْ هُجِّرْنا؟ الواقع يقولُ أنَّ الإجابة لنْ تكونَ على قدرِ الأهميَّة منَ السّؤال! ما يثيرُ خوفي أنّنا لَنْ نُذْكَرَ في التَّاريخِ سوى عبارة عنْ مجموعاتٍ هاربةٍ باعَتْ أرضَها، سوى محض أناس تخلّوا عَنْ أصالتِهم وهويَّتهم ومضوا حيث أرادوا. المحزنُ في الأمرِ أنَّ هنالكَ مَنْ سيصدِّقُ ويؤمنُ بكلامِ كاتبي التَّاريخ، والأكثر حزناً وقباحةً أنَّ هنالكَ مَنْ يُثْبِتُ ويؤكِّدُ صحَّةَ كلامِهم. محاصرونَ نحنُ مِنْ كلّ الجهات، ولا مهرب لنا مِنْ صفةٍ تطاردُنا طيلةَ حياتِنا. متنوِّعة هي الكلمات الّتي سنُنْعَتُ بها في كلّ وقتٍ وعلى لسانِ كلّ شخصٍ، لكنَّ ما سنشتركُ به جميعُنا.. أنَّنا الخاسرونَ لا محالة! 

غربة الرّوح تجعلُ المرءَ كاتباً وشاعراً وناقداً، تؤسِّسُ فيه كلّ حواسِ العمرِ والزَّمن والشّكل. لَنْ يدركَ سواه كلّ هذه التَّفاصيل، الّتي ما كانَ -هو أيضاً- يلاحظُها قبل أنْ يرحل!

لأعيدَ ترتيبَ المشهدِ وتقسيمَ الأدوارِ، أحتاجُ في هذا الوقتِ مَنْ يلعبُ دورَ الجدَّةِ. مَنْ إلّاها إذاً، أمّي! سأبدأ التَّصوير.. لَمْ تكنْ مصادفةً أبداً أنْ أشردَ لربعِ ساعةٍ، كانَ الوهمُ جميلاً ومقنعاً وكافياً لإراحتي، لا أعرفُ مقدارَ القوّة الّتي أجلَسَتْني على هذا المقعد دون أنْ أقولَ شيئاً، بيد أنّني لا يمكنُني أنْ أكلِّمَ سوى نفسي. كنتُ أفتِّشُ في كلامِكِ عمَّا يلامسُ وجهي، كانَتْ حروفُكِ دافئةً يا أمّي، لقدْ عانيتُ منَ البردِ طويلاً.. يا ليتكِ كنتِ!

أسوأ ما أجاريهِ أنّني أؤمنُ بكبَرِها، لا أدري ما الّذي يدفُعني للشُّعورِ بأنّها تكبرُ بسرعةٍ بدوني، ما أكبر هذا البؤس الّذي يحيطُني بجلدِ الذَّات، ما أبخسَ هذا المصير وما أقساه. إنَّ أقبح إحساسٍ اعتراني أنَّني سأموتُ يوماً ندماً لكلّ لحظةٍ مضَتْ دونَ أنْ ألاحظَ بها ملامحها، دون أنْ أشهدَ عينيها ووجهها، صوتها وتجاعيد يديها. هذه التَّفاصيل خاصّتي، لا شيء في هذا الكون أثمن مِنْ مراقبتِها، لا شيء أثمن مِنْ أنْ أحيا كلّ يومٍ يمرُّ عليها. لا شيء..

أمّا أبي، فهو البعيد عنِ المشهدِ، الحاضن لكلِّ شعورٍ، المُسْتَقْبِل لكلّ وجعٍ والصَّادِر باللّاشيء. مَنْ يعرفُ ما بداخله، وهو الرَّافض للبوحِ. منذ غيبتي الأولى وأنا أجمعُ صورهُ، وأفتحُ دفترَ ملاحظاتي، أدوِّنُ كلّ الفروقاتِ الّتي ألتقطُها، أكتبُ له كَمْ ازدادَ الحزنُ في عينيهِ، كم شعرة بيضاء كانَ قدْ اكتسبَ منذ البارحة، كم مرَّة فكَّرَ بي قبل النَّوم، وكم مرَّة حاولَ ألَّا يفكِّر. تجربة مِنْ أقسى تجارب الإنسانِ الّتي يجتازُها، غربة الرّوح تجعلُ المرءَ كاتباً وشاعراً وناقداً، تؤسِّسُ فيه كلّ حواسِ العمرِ والزَّمن والشّكل. لَنْ يدركَ سواه كلّ هذه التَّفاصيل، الّتي ما كانَ -هو أيضاً- يلاحظُها قبل أنْ يرحل!

سيطولُ المشهدُ قليلاً وألمحُ شكلَ البيتِ، نكهةَ دمعاتِهم يوم الوداعِ، رائحةَ الوردةِ الشَّاهدةِ على ذلك الحدث، صوتَ اللَّيلِ وضجيجَ الأرواح، وأعاودُ الكتابةَ قبل النَّوم.. كم أضحى اللَّيلُ مُتْعِباً، هذه الفترة الزّمنيّة ما قبل الرّكود، ما قبل التّناسي، أراها طويلةً جدّاً، ومع ذلك أعتادُها، أعتادُها كارهاً وبمشقَّةٍ عُظمى. أمضي اليوم هارباً مِنْ نفسي، ولكنْ.. لا سبيل إلى الأبد، فوعدُ الرُّوحِ حقّ!

هلْ تغدو حياةُ المغتربِ مُضْنِيَةً بهذا الشّكل دائماً؟ أبسط الأمور الّتي كانَتْ، أضحتِ اليوم أعقدها. أيعقلُ أنْ يتطلَّب النّوم جهداً؟ وكالعادةِ أسألُ نفسي ختاماً كلّ يومٍ "إلامَ أحتاجُ؟".. أنا لستُ كثير المطالب، لقد أيقنتُ كيف أصبحُ قانعاً، ما يعني أنَّني اكتسبتُ ذكاءً للعيشِ، وغباءً كبيراً للتّعايش!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.