شعار قسم مدونات

وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر

blogs- السقوط

الوقت كفيل بالنسيان. لا أدري من قال هذه الجملة أول مرة، لكني أكيدة أنه كيفما كان همه، فهو الوحيد الذي أعطى أهمية لأمر آخر في حياته جعله ينسى ما مضى. مسألة أولويات فقط. كيفما كان ما نمر به، بحلوه ومره، هناك من الأمور ما لن يفهمه الآخرون، ما لن يحسوا به، ببساطة لأنهم لم يعيشوه. قد يستطيع الجميع أن يدلي برأيه، ربما بتهكماتهم حول الموضوع، وربما حقا بنصائح ثمينة، وأحيانا بضغط نفسي قد يمارسونه عليك دون إدراك لعواقبه. لكن طالما أنك في مكانك فلا تتوقع أبدا أن يتغير شيء. لسبب وحيد، أن الكون لا يقبل الركود. فحتى في لحظات السكون الكبرى، هناك من الحياة ما يدب في باطنه.
   
لحظات السقوط مؤلمة، ليس فقط لشدة السقطة، ولكن أيضا بسبب الخوف من نظرة الناس، تعاليقهم، والأسوأ من ذلك الخوف من عدم القدرة على النهوض، أو تكرار ألم السقوط مرة أخرى. ما أكثر حجج عقلنا عندما يقرر الانغلاق على نفسه في جمجمته. ولو أنه أراد عكس ذلك لنجح في إقناعنا بالتحليق من أعلى المرتفعات، ملما بكل الأخطار التي قد تحيط بنا في قلب السماء، تماما كما فعل عباس بن فرناس في محاولته الأولى للطيران.
   
قد يبدو الأمر صعبا بادئ ذي أمر، لكنه يرتبط فقط بالزاوية التي نرى منها الأمور. لأن كل شيء معقد هو في الحقيقة تركيب مجموعة من الأمور البسيطة التي إن استجمع العقل القليل من قوته لفهمها، لانتهى به الأمر في حلها كيفما كانت صعوبته الظاهرية، من خلال الإحساس بتلك الانتصارات الصغيرة المرتبطة باستيعاب جزيآته الصغرى، والتي تشجع على المضي قدما. فقط لو ننجح في لحظات السقوط بتذكير عقولنا الصغيرة بقدراتها اللامتناهية، أما بتركنا الساحة لها، فهي قادرة على تضخيم كل شيء منقصة بذلك من شأنها، مع الأسف. "دواؤك فيك وما تبصر، وداؤك منك وما تشعر، وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر." ألا يستحق هذا العالم الأكبر بدا خلنا أن نكتشفه قليلا؟ وربما نبحر داخله؟
 

كيفما كان ما نمر به، فلا شيء يستحق الحزن العميق، لأن دوام الحال من المحال. في المقابل يجب أن نتعلم فهم ذواتنا في كل ما نعيشه كنوع من التأمل، من أجل استثمارها مستقبلا في مواضيع أكبر

أذكر يوما أخذت فيه خمس علامات من أصل عشرة في مادة الرياضيات، أنا التلميذة المجدة ذات العشر سنوات التي تعرض اعتبار نقطها الكاملة لمدة خمس سنوات من التعليم الابتدائي للإهانة بسبب أعداد كسرية لم يستوعب عقلي آنذاك منطقها. ضغطت علي المعلمة لتفهم سبب تراجع نقطتي، مبحرة وسط مواضيع لا علاقة لها بها. وعندما لم تجد جوابا مقنعا لأسئلتها، اتهمتني بالكسل، مخجلة إياي بشكل مخز. ولأنني كنت متأكدة أن علامتي لم يكن لها علاقة بالكسل، فقد انفجرت باكية أمام أبي، ظنا مني أني أصبحت غبية. لقد أقنعت عقلي أنه أصبح ضيقا وأن تلك الكسور لن يسعها بتاتا. وحكمت على نفسي بالغباء. يومها أخبرني أبي أن لكل جواد كبوة وأن كل بن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون. ولا أنكر أن هذه النصيحة ساعدتني دائما في حياتي سواء في مسألة الرجوع عن الخطأ أو في تقدير ذاتي عندما تظلم الحياة في وجهي.

 

هنا أعود لموضوع الركود الذي لا يجب خلطه بالسكون. هذا الأخير نحتاجه في كثير من الأوقات للملمة أجزائنا. مع أنه في الواقع ليس حقا سكونا وإنما ترتيب للأفكار، لا يجب أن يطول كثيرا لكي لا نعود عقولنا على الرتابة، وفي نفس الوقت يجب أن يأخذ مساحته الكافية من ضجيج الحياة ليرتب أولوياته ويعيد استثمار قوته في معطياته الجديدة. نستطيع أن نأخذ الأمر بكل العصبية التي نملك، لا شيء سيتغير. في المقابل بإمكاننا أن نستسلم لجاذبية الأرض، فرصة ذهبية لتأمل الحياة، وملاحظة ما يجري حولنا، قلب الأم، دعاء الجدة، يد الصديق… والأهم لطف الله بنا الذي جعلنا نعيش وسط كل نعمه حتى أننا ظننا أنها ملك مطلق لنا، فربما تجبرنا يوما، وربما غفلنا عن مسؤولياتنا. لكنه هو الله يمهلنا الوقت اللازم لتصحيح أخطائنا، ولا يهملنا أبدا، وهذا من فضله.

   
لذلك كيفما كان ما نمر به، فلا شيء يستحق الحزن العميق، لأن دوام الحال من المحال. في المقابل يجب أن نتعلم فهم ذواتنا في كل ما نعيشه كنوع من التأمل، من أجل استثمارها مستقبلا في مواضيع أكبر، أحلامنا على سبيل المثال. ولا ننسى أن رحمة الله تجبر الخواطر، وتلين الحديد وتجعل من كل أمر عسير يسير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.