سأبدأ بالتعريف عن نفسي لك أيتها الأوراق الحانية فأنت ستصبحين رفيقتي الأمينة، أأمل أن لا تكوني كالبشر وأن تتذكريني ولو لبعضٍ من الأمد فأنا طفلة من إحدى الأقوام المنسية التي تخلت عنها أمتها. اسمي خديجة رامجان وأنا أحب اسمي لأسباب عدة أهمها أنه قطعة من والدي فقد روت لي أمي في صغري أن أبي العزيز سماني بخديجة لمحبته وتأثره بأم المؤمنين خديجة بنت خُويلد رضي الله عنها زوج الرسول محمد عليه الصلاة والسلام. سأبقى متمسكة باسمي لأنه الذكرى الوحيدة التي تبقت لدي من أبي قبل أن يتم اختطافه من قبل مجموعة من البوذيين المتوحشين كان عمري وقتها سنتين.
مشينا على أقدامنا مع جموع كبيرة من الروهينغيا تحاول اللجوء والوصول إلى بنغلادش هرباً من عمليات التطهير. سرنا بين الغابات والمناطق الزراعية متخفين خوفاً من أن تجدنا قوات الشرطة والجيش |
وفي الآونة الاخيرة منذ 25 أغسطس/آب الماضي في عام 2017 قام جيش ميانمار والمليشيات البوذية ببدء موجة جديدة من الانتهاكات والمجازر الوحشية ضدنا مما أسفر عن مقتل أكثر من 655 ألفا من الروهينغيا أثناء عمليات التطهير العرقي التي نتعرض لها. تعجز كلماتي عن التعبير أمام الكم الهائل من الذكريات المؤلمة والصور الدموية التي مازالت عالقة في ذهني. سرقوا مني الطفولة والبراءة! سرقوا مني الأمن والأمان! سرقوا مني السكينة والطمأنينة! سرقوا مني حنان الأب وشمل العائلة.. وإلى الأبد.
مشينا على أقدامنا مع جموع كبيرة من الروهينغيا تحاول اللجوء والوصول إلى بنغلادش هرباً من عمليات التطهير. سرنا بين الغابات والمناطق الزراعية متخفين خوفاً من أن تجدنا قوات الشرطة والجيش. وفي اليوم الثالث من رحلتنا حاولنا أن نأخذ قسطاً من الراحة. وفي تلك الليلة المظلمة وقد غلبنا النوم من شدة التعب.. "كلا! كلا! أرجوكم لا تقتلونا!" كانت ضمن الآهات والصرخات القريبة والتي أفزعتني وقطعت نومتي أصوات العويل والبكاء وصيحات الألم قريبة منا ببضع أمتار، نظرت إلى جانبي الأيمن وإذ بأمي تجمع أغراضنا البسيطة في صرة قماش وتمسك بيدي بقوة. "أمي! ماذا يحدث؟".
"أمي! أرجوك أخبريني ماذا يحدث؟ أصبحت كبيرة يا أمي! أستطيع أن أتحمل أي شيء!" لا إجابة… الدهشة والصدمة والحزن على محياها. وبدأت أصوات الصراخ والمناشدة والرجاء تقترب وتتعالى وضعت غاليتي الصرة على ظهري وركضت بي إلى شجرة عالية ذات أغصان كثيرة وورق كثيف. حضنتني بقوة وبكت، حينها فقط أدركت ما يحدث. قالت لي "قد أتوا لقتلنا ولا مجال للهرب، ستتسلقين هذه الشجرة ولن تنزلي إلى الأسفل أو تصدري أي صوت مهما حدث…أحبك يا صغيرتي، أحبك" تمسكت بشدة بفستانها الأخضر وبدأت أجهش بالبكاء، قبلتني على خدي وكانت تلك قبلة الوداع..
قتلوها أمام عيني الصغيرتين. لا أريد أن أتذكر تلك اللحظة على الرغم من أن صورتها وهي ممدة على بركة من الدم ترافقني دوماً، أغلقت عيني وهمست بداخلي "أنا أحلم.. هذا كابوس.. سأستيقظ في الصباح.. ستكون أمي بجانبي.. سيكون كل شيء على ما يرام". أدركت فقط في الصباح أنني قد كذبت عندما قلت لأمي حبيبتي أنني أستطيع أن أتحمل أي شيء.. ما عدت أستطيع المتابعة، عجز لساني وهاهو يعجز قلمي، لعلي أتمكن من لقائك مرة أخرى أيتها الأوراق. لا أدري، لكن أرجوك أن تخبريهم أنني لا أسعى خلف شفقة كاذبة، ولكن أتحرق شوقاً أن تتحرك أمتي النائمة وتستفيق من غفلتها وأن تتحرك لأجلنا وتهب لنجدتنا وتمنع عنا الذل والهوان.
فإلى متى الخذلان؟ إلى متى؟
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.