شعار قسم مدونات

إشكالية "الدولة المدنية" في الفكر العربي والغربي (2)

blogs مجتمع

يقول "جوزيف شتراير" (1904 – 1987) أستاذ التاريخ في جامعة برنستون الأمريكية سابقاً، خلال محاضرة له ألقاها عام 1961م "قد نشكو اليوم من متطلبات الدولة، ونحتج ضد تعدياتها المتزايدة، ولكن يستحيل علينا التفكير في الحياة بدونها"، ثم ما لبث أن توسع في مفهومه للدولة في كتابه "الأصول الوسيطة للدولة الحديثة، الذي أصدره عام 1969م، وأكد خلاله أن غياب الدولة يعني طغيان الارتباطات العشائرية والاثنية والدينية والعرقية. 

ورغم أن مفهوم الدولة لم تلازمه صفة الديمومة دائماً، إلا أنه غالبا ما برز بصيغة "الدولة المركزية" قديماً، والتي اندحرت بفعل عوامل عديدة، في الغرب والشرق على السواء، ثم ما لبث أن تطور مفهوم الدولة في العصور الحديثة، وأصبح ضرورة اجتماعية واقتصادية، وتعمقت فلسفتها، وأدركت المجموعات البشرية بأن الشعوب أو الأقوام المتخلفة أو البدائية هي وحدها التي يمكن ان تستغني عن وجود الدولة، وأن المواطن اليوم لا يمكنه الإفلات من الدولة إلا بالخضوع لها ولمؤسساتها. 

لقد حاول الكثير من المفكرين سبر غور الدولة ومعرفه أصولها ووظائفها، ووجد في الغرب مدارس فكرية عديدة تبنت نظريات مختلفة لمفهوم الدولة، بل وساهمت تلك الأفكار في التمهيد لإقامة الدولة القومية في أوروبا بعد قرون من الاستبداد الديني في ظل الحكم الكنسي الذي كان يتحكم بتلابيب الشؤون السياسية والدينية.

وأظهرت الدراسات الأنثروبولوجية -علم الإنسان- أن المجتمعات القديمة عرفت شكلاً متميزاً لعلاقة الربط بين الدين والسياسية في إطار ما يسمى آنذاك "الدولة"، وكانت هذه العلاقة شرطاً هاماً لبناء نظام اجتماعي – سياسي، وامتازت صفة الحاكم بالديني والدنيوي في آن واحد، فإما أن يكون الزعيم أو القائد شخصاً مقدساً ممثلاً لروح الجماعة، أو أن يكون رجل الدين ذو مكانة سياسية وراعياً لمصالح المجتمعات المحكومة، بعناية إلهية.

كرّست الثورة ضد المستعمر منذ منتصف القرن الماضي هوية لغوية عربية إسلامية بمستويات وعي مختلفة، لكن الوعي القومي العربي الذي ساهم في بناء الانظمة السياسية العربية الحالية

استطاع الغرب حسم العلاقة الجدلية بين الدين والدولة في مرحلة مبكرة في نهاية العصور الوسطى، بعد ان فجّر مفكروه عصر النهضة في مختلف المجالات، وقامت سلسلة ثورات ساهمت في عقلنة المجتمعات الأوروبية وتأسيس مبادئ علمية دنيوية مقابل الأفكار الدينية التي كانت تستمد سلطتها السياسية من سلطة إلهية عليا، وتحكم باسمها .

وشهد الغرب الكثير من الحروب الدينية خلال القرن السادس عشر، وشهد أيضاً صراعات حادة بين الدولة وسلطة الكنيسة، التي كانت تنصّب الملوك وتمنحهم الشرعية السياسية والدينية، لقد ساهمت الثورات والحروب الأوروبية في وضع حلٍ لإشكالية السلطة الدينية، من خلال الفصل بين السلطة السياسية الدنيوية والسلطة الروحية الدينية، وفي موازاة التحول التاريخي، نجح الفكر السياسي والفلسفي لمفكرين كبار أمثال (ميكافيللي، سبينوزا، لوثر، مونتسكيو، روسو، لوك، هوبز) في بلورة تمايز اشكالية الدولة المؤسسية الحديثة عن الإشكالية الثيولوجية المسيحية (أو علم الأخلاق المسيحي) ، بعد بروز نظريات سياسية تنتقد "الحق الإلهي" في الحكم، وظهور أنظمة سياسية غربيّة سارت على هذا النهج أيضاً .

وبالتالي، فان الفصل بين الدين والدولة في الغرب، جاء بمثابة حل للمعضلات والصراعات التاريخية السياسية التي واجهتها أوروبا آنذاك، أيديولوجيا وسياسياً.  فيما تشكّلت الأسئلة المتعلقة بمفهوم الدولة عموما، في الفضاء العربي، مثار جدل وخلاف في الفكر العربي والإسلامي المعاصر، على اختلاف مشارب المفكرين وتياراتهم السياسية، الإسلامية والليبرالية والعلمانية وغيرهم، فبعضهم يؤسس نظرياً لإقامة دولة مدنية في صدر الإسلام، خاصة في عهد الرسول الكريم، وفي عهد الخليفة عمر الخطاب، والبعض يرى أن ما تشكل خلال التاريخ الإسلامي برمته لا يمثل أكثر من سلطة حكم سياسية – دينية، قديماً وحديثاً، أسوة بما شهدته أوروبا في العصور القديمة والوسطى.

وينطلق بعض المفكرين من تفاصيل جدليّة لم تحسمها الوثائق التاريخية الإسلامية، بدعوى أن النبي محمد -عليه الصلاة والسلام- بذل جهوداً لإرساء أحد أهم الدساتير في التاريخ السياسي البشري عامة، والتاريخ العربي الإسلامي خاصة، وهو دستور المدينة، الذي اختفي من وثائق بيت الإسلام بعد وفاته، حيث كان الدستور بمثابة مبادئ شمولية لتنظيم شؤون المسلمين عامة، وحفظ حقوق الأقليات خاصة، من يهود ونصارى، وضمان حقوقهم التجارية والدينية، لكن لم يثبت -قطعاً- أنه تطرق لمسألة الحكم وتداول السلطة، لاسيما وأن شؤون الدنيا تّركت للناس، كما أبلغ النبي أصحابه بقوله "أنتم أعلم بأمر دنياكم"، رغم أن صحيفة المدينة احتوت ما يدّل على صيغة تقريبية لفكرة المواطنة، التي تتناولها النظريات السياسية اليوم.

لقد كان الدين في العالم العربي والإسلامي، إجمالاً، وعلى خلاف الغرب، تتحكم به السياسة وتوجهه لصالحها، فكان بمثابة أيديولوجية حكم ومصدراً للشرعية السياسية للحاكم، ولا يمكن الجزم بأن البيئة العربية شهدت مظاهراً للصراع أو الحروب الدينية، أسوة بما جرى في الغرب، باستثناء مراحل متقطعة خلال القرون الأربعة الأولى للإسلام، والتي تلخصت في فتنة الخلافة وقتل الخلفاء الراشدين، وهذا ما يفنّد دعاوي التيار الإسلامي باستحالة نقل التجربة العلمانية الغربية على المجتمعات الإسلامية. كما كان لاعتماد الدولة الإسلامية على الفتوحات والحروب الخارجية، دوراً في الحد من غلواء الفتن الداخلية والصراعات السياسية، والعكس صحيح.

وبعد أن تدهورت الإمبراطورية الإسلامية، على اتساعها الجغرافي، بين القرن العاشر والثامن عشر الميلاديين، استيقظ الوطن العربي، بعد سقوط الخلافة العثمانية، على الاستعمار الأوروبي الذي تميّز بالمراوحة المزدوجة بين التنمية الاقتصادية والسياسية والثقافية لمظاهر الدولة، من جهة، وتفتيت البنية التحتية الاجتماعية على أسس عرقية ولغوية ودينية، من جهة أخرى.

فقد كرّست الثورة ضد المستعمر منذ منتصف القرن الماضي هوية لغوية عربية إسلامية بمستويات وعي مختلفة، لكن الوعي القومي العربي الذي ساهم في بناء الانظمة السياسية العربية الحالية، والتي كانت في معظمها تدور في اطار الفكر القومي والوحدة، شكّل امتداداً أيديولوجيا لعصر النهضة في أوروبا، وصيغت مبادئه في إطار مشروع الحداثة والعلمانية التي هدفت الى تنظيم شؤون المواطنين بالقوانين التي تفصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية، وهو ما فشل عملياً في الواقع العربي، بتكريس سلطة الفرد الحاكم وتبدّل الشرعية الدينية بشرعية الاستبداد وعسكرة المجتمعات .

وتبلورت في هذا الإطار أفكاراً نهضوية عربية وإسلامية متنوعة، تدعو إلى التوفيق بين العقل والنقل، وتبنّت بعض الأفكار نموذج النهضة التوافقية بين التراث الإسلامي والتحديث العقلاني، والتي تمثّلت بأفكار المفكّرِيّن "جمال الدين الأفغاني" و"محمد عبده"، ودعوتهما التركيز على الجانب الروحي، والفصل بين الإسلام والحكم.

اهتمت أغلب الكتابات الإسلامية المعاصرة، قبل سقوط الخلافة العثمانية، بالدفاع أساساً عن فكرة دولة الخلافة، أو الدولة الأمة والإمامة الإسلامية
اهتمت أغلب الكتابات الإسلامية المعاصرة، قبل سقوط الخلافة العثمانية، بالدفاع أساساً عن فكرة دولة الخلافة، أو الدولة الأمة والإمامة الإسلامية
 

وخلال بحثه في النماذج الأيديولوجية المؤسّسة لوعي مسألة الدولة لدى المفكرين الإسلاميين، شرح الدكتور عبد الاله بلقزيز في كتابه "الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر" إشكالياتٍ كثيرة طرحت نفسها بقوة على الوعي بتلك المسألة، تمثلت بالدولة الوطنية، دولة الخلافة، الدولة الإسلامية، والدولة المدنية، وتناول علاقة الديني بالسِّياسي في وعي تلك النخب الفكرية الإسلامية الحديثة والمعاصرة، خلال حقبةً زمنية طويلة تزيد عن القرن ونصف، ممتدة منذ "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" لقائد النهضة العلمية في مصر "رفاعه لطهطاوي"، إلى السياسة الشرعية للدكتور "يوسف القرضاوي".

لقد اهتمت أغلب الكتابات الإسلامية المعاصرة، قبل سقوط الخلافة العثمانية، بالدفاع أساساً عن فكرة دولة الخلافة، أو الدولة الأمة والإمامة الإسلامية، وذلك رداَ على كتابات نهضوية رفضت فكرة الخليفة والخلافة ودعت الى الاقتداء بالغرب في تأسيس دولة حديثة، وكان الدكتور "علي عبد الرازق" من أوائل من تنّبوا هذه الدعوة، فقد أوضح في كتابه "الإسلام وأصول الحكم" " أنّ "الدين بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون، وبريء من كل ما هيّأوا حولها من رغبة ورهبة، ومن عز وقوة". 

فيما رد الشيخ "محمد رشيد رضا" في كتابه "الخلافة أو الإمامة العظمى" على تلك الأطروحات التي تنفي وجوب الخلافة، بالتأكيد على اتفاق علماء الأمة والسلف الصالح وأهل السنة، وحتى الطوائف الأخرى، على تنصيب أو تولية الإمام باعتباره "واجباَ شرعياً لا عقلاً"، أي أن انتخاب أو اختيار الإمام برأيه واجب شرعي ديني لا يخضع للإرادة الشعبية العامة.

زاد سقوط الخلافة العثمانية من وطأة النقاش بين الطرفين، وتحوّلت المعركة الفكرية الى مستوى أخر،، بعيداً عن التعميم لشكل الدولة ومنهجها، إسلاميةً أم مدنية أم علمانية ، حيث تعلق النقاش بعلاقة الدين بالسياسة وإعادة قراءة التاريخ الإسلامي بين مناصريه ورافضيه، خاصة ما يتعلق بطبيعة الدولة من منظور إسلامي، واختصر النقاش بين مفكرين علمانيين ومشايخ إسلاميين، لاسيما المناظرة المشهورة التي جرت بين مشايخ الأزهر أمثال (الدكتور محمد الغزالي والمستشار مأمون الهضيبي والدكتور محمد عمارة) وبين فريق من المفكرين العلمانيين أمثال (الدكتور فرج فودة والدكتور محمد خلف الله) وغيرهما، وتركزت الكتابات خلال المناظرات النثرية الجدلية حول طبيعة ومفهوم وتأسيس فكرة الدولة في الإسلام .

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.