شعار قسم مدونات

النبوغ المغربي.. مقاطعة بدون مضاعفات جانبية!

مدونات - المقاطعة بالمغرب

زعموا أن "مقاطعة" شعبية عجيبة بلغ صداها عنان السماء، ووصفها الواصفون بأنها أنيقة نظيفة تتمتع بقدر وافر من الجمال والذكاء، فمباشرة بعد زيادة في الأسعار، تم استهداف رموز الهيمنة والاحتكار، وعلى رأسهم نجم ساطع في حزب الأحرار، لقد هب الشعب لحماية قدرته على الشراء، وهمه الوحيد مناصرة الفئات الهشة من الضعفاء والفقراء، ولذكائه العالي اختار ثلاثة فقط من منتوجات المحتكرين الأثرياء، وانصب غضبه الافتراضي على نوع محدد من الحليب والغاز والماء.

 

أصيب المسؤولون -المساكين- بصدمة المقاطعة، ولم ينفع الحكومة الموقرةأاسلوب الممانعة، وإن كان رئيس الحكومة خبيرا في الأمراض النفسية، فقد ظهرت على بعض وزرائه أعراض المكابرة والغباء والهستيرية، فمن تسرع منهم عبر عن نقص حاد في الذكاء، ومن تمهل خرج بفشل ذريع في الاحتواء، وهمَّ بتهديد بليد بعيد عن الدهاء، كيف يعقل أن يهدد "متخلف" شعبا محتجا بالمحاكمة والوقوف أمام القضاء، إنها لعمرى حكومة غبية تناصر "أسيادها" الأثرياء على حساب الضحايا الأبرياء، وهكذا ستبقى المعركة مستمرة بين بعض الأغنياء المحتكرين الأثرياء، وكل الفئات الهشة من الفقراء والمساكين الضعفاء.

وأنا أتابع حملة المقاطعة التي استهدفت منتجات بعض الشركات "الكبرى" في المملكة المغربية، شعرت بأن بعض قناعاتي بدأت تهتز من مكانها مطالبة بـ"التغيير" العاجل وبإصرار شديد! فلطالما كنت أردد في نفسي مقولة كتبت عنها يوما مقالة تحت عنوان "ياله من شعب لو كان له قادة"! وذلك لقناعتي بدور "القادة" في التأثير والتأطير وتوجيه الشعوب نحو التغيير والتطوير، هكذا "كانت" القناعة "التقليدية" قبيل المقاطعة! ولكن انبعاث هذه الحملة "الثائرة" بعفوية، "قائدة نفسها بنفسها"، ومحددة أهدافها بدقة وذكاء، كشفت لي ليس فقط عن إمكانية "القيادة" بدون قائد! بل قد أتقنت قيادتها، وأدهشت في القيادة!

مقاطعة تاريخية!
 ما زالت الحكومة تستكثر على الشعب إمكانية النبوغ والإبداع، وقيادة نفسه بنفسه، وإذا ما قام واحتج وأبدع في الاحتجاج، فإنهم يجهدون أنفسهم في البحث عن "الرأس المدبر"

ها قد اكتشف الشعب المغربي أخيرا "وصفته السحرية" لاسترجاع "إرادته المسلوبة"، وفرضها فرضا على أرض الواقع، والعجيب الغريب أنها "وصفة نظيفة" بدون مضاعفات جانبية! ففيما مضى كان "القادة" الشجعان يقودون الجماهير الغاضبة في المظاهرات والمسيرات والاحتجاجات، فيجدون أمامهم جيوشا من رجال الأمن "يحرسونهم" بزراويطهم وعصيهم السوداء! مع حضور ملفت لسيارات الأسعاف تحسبا لأي تطور في "الأحداث"! ثم تنتهي الاحتجاجات الغاضبة، بعودة آمنة للبيوت، أو يجد "القادة" المساكين أنفسهم وراء القضبان، مع أنصارهم المغرر بهم، ليواجه الجميع تُهم الشغب والإخلال بالنظام العام، على أقل تقدير! هذا إذا لم "يبيعو الماتش"، ويستجيبوا للمساومات والإغراءات!

هكذا كان الحال فيما مضى عبر عدة أجيال، أما اليوم فقد تم الإعلان عن بداية "تاريخ جديد"، قبل بضعة أسابيع، بدون أي قائد أو "وسيط"، وبدون احتلال أي شارع "بدون ترخيص"! وبدون أي ازعاج للسلطات! فلم نشاهد جحافل المستهلكين المتضررين محتجين أمام أبواب الشركات المستهدفة، أو محاصرين مسؤوليها في إداراتهم أو بيوتهم الفاخرة، فعلى العكس من ذلك، لم يوفر هؤلاء "المحتجون الجدد" جهود رفع أصواتهم بالشعارات فحسب! أو أثمنة طبع اللافتات والملصقات ومصاريف تنقل المحتجين من كل مكان، عبر الدراجات والحافلات والسيارات، بل قد وفروا على الدولة نفسها تحريك "أجهزة قمع الشغب"، وما يتبعه من سيارات الشرطة والأسعاف، والضغط على أقسام الأمن والمستشفيات!

 

إضافة إلى التخفيف عن المحاكم والنيابات العامة، بعدم متابعة المتهمين في سلسلة ماراطونية من المحاكمات، وهو ما يريح الكثير من الأسر والعائلات والأمهات من رحلة البحث عن أبنائهن وإخوانهن وأزواجهن بين السجون والمعتقلات! هنا تكمن الروعة والرقي، وهذا لعمري هو"النبوغ المغربي" بإبداع مقاطعة مؤثرة وبدون مضاعفات جانبية أو معاناة!

مسؤولون أغبياء!

لقد حار المسؤولون "التقليديون" في التعامل مع "مقاطعة حديثة"! فلم يجد المساكين أمامهم لمحاصرتها إلا "الوسائل التقليدية" المعهودة، فراحوا لغبائهم منقطع النظير يبحثون عن "رأسها" فلما لم يجدوه! فاتهموا "كتائب" حزب يقود الحكومة الحالية! لا لشيء إلا أنه كان خصما "تقليديا" غير مرغوب في الماضي القريب!

 

ولما لم يجدوا لها رأسا، ولم يظهر لها قائد، أصابتهم "الهيستيريا"، وخرجوا عن طوعهم، ولم يتحكموا في تصرفاتهم وأقاويلهم، ولم يجدوا أمامهم إلا السب والشتم والتخوين والتهديد والوعيد! مساكين أغبياء، فاتهم القطار! لم يستوعبوا بعد بأن الشعب أذكى منهم بكثير، وأنه تجاوزهم بسنوات ضوئية على مستوى الوعي والذكاء والدهاء، والانخراط بفعالية في "القرن الجديد"! ودليل غبائهم منقطع النظير أنهم مازالوا لم يستوعبوا بعد أن الشعب أرقى وأذكى منهم، لذلك ما زالوا يستكثرون عليه إمكانية النبوغ والإبداع، وقيادة نفسه بنفسه، وإذا ما قام واحتج وأبدع في الاحتجاج، فإنهم يجهدون أنفسهم في البحث عن "الرأس المدبر"، الذي "يحرك" الجماهير من وراء ستار! فعلا وحقا وصدقا إنهم "أغبياء"!

البرلمانية والبايوممكري!

إذا كان عاديا أن يصف وزير حالي المقاطعين ب "المداويخ"، وآخر سابق بـ"الجيعانين" ويتهمهم مسؤول الشركة ب "الخيانة"، فإن وصفهم ب"القطيع" من برلمانية اشتراكية لم يتمتع قط بأي قدر من "الحنان" أو "رحابة" صدر! وإذا اضطر مسؤول الشركة والبرلمانية للتراجع والاعتذار أمام "غضبة الشعب" المزمجرة، فإن الحكومة الموقرة التي أخذت وقتها كاملا في التفكير لم تستفد قط، لغبائها، من الدروس، ودفعت بفتاها الصغير ليحاكي انتفاخا صولة الأسد! وراح يهدد المقاطعين بالمتابعة وجلب مروجي "الأخبار الزائفة" منهم للقضاء!

لا أدري هل تعلم البرلمانية الاشتراكية علما جديدا يدعى Biomimicry أو محاكاة الطبيعة، إنه سيدتي علم يدرس النماذج الطبيعية ليستلهم منها حلولا لمشاكل البشرية المتعددة في مختلف الميادين والمجالات، إذ نجد العلماء في مختلف التخصصات يهرعون إلى الطبيعة/المعلم ليستلهموا منها الحلول الناجعة لمشاكلهم في شتى الميادين. وأكاد أزعم وأجزم بأن الشعب المغربي الأبي قد اكتشف بفطرته السليمة أهمية هذا "العلم الجديد"، وهو يدخل القرن الجديد! ولا شك أنه قد استفاد من مشاهد نادرة دخلت تاريخ الأفلام الوثائقية، قبل بضع سنين!

الشعب المغربي الذكي، يقدم للعالم نمطا جديدا في فن الاحتجاج و النضال، نضال نظيف
الشعب المغربي الذكي، يقدم للعالم نمطا جديدا في فن الاحتجاج و النضال، نضال نظيف "خال من العنف"، بل زاخر بالفنون والإبداع
 

إن كل من كان يتابع الأفلام الوثائقية الخاصة بالحيوانات قد تترسخ في ذهنه صورة "تقليدية" بين القطيع والمفترس، حيث تجد النمر أو الأسد يرصد فيركض وراء القطيع، الذي يشعر بالرعب ويهيم على وجهه في البراري، إلى أن يختار منه المفترس ما شاء ويملأ بطنه، ثم يعود كلما شعر بالجوع، وهكذا دواليك، وقد استفاد العديد من "الحكام" من هذا السر العجيب الذي يتجلى في توظيف "الخوف" و"الرعب"، حتى أصبح سياسة معتمدة وفاعلة في ضبط الشعوب والتحكم فيها، وهو "سر" معتمد في الدول الكبرى، وسارت على منوالها كل الدول المستبدة في منطقتنا كل حسب جرعة استعماله! وما تغول وزارات الداخلية وتسلطها إلا مؤشر على اعتماد تلك السياسة! فإذا كان الأسد المفترس في الغابة يستهدف الأضعف في القطيع ليسد رمقه ويمضي، فإن الحاكم المتسلط يستهدف "القائد" رأسا ليضمن "ضبط" كل الاتباع دونه!

هذا فيما ما مضى طبعا، ولكن حاليا بدأنا نرى جيلا جديدا في "الطبيعة"، جعل المتابعين مندهشين أمامه، حيث بدأنا نرى لأول مرة لقطات نادرة لا يشعر فيها "القطيع" بالخوف، فيقف ثابتا ولا يهرب أبدا، بل يواجه المفترس بشراسة، وهي لعمري صور نادرة تثير الإحساس وتشد الأنظار والأنفاس، وتشعرك بالمتعة والفائدة! حيث يطوح الجاموس باللبؤة في السماء، ويحطم القطيع كبرياء الأسد، ويمرغ شجعان القطيع أنف النمر في الطين!

إنه الشعب المغربي الذكي، يقدم للعالم نمطا جديدا في فن الاحتجاج و النضال، نضال نظيف "خال من العنف"، بل زاخر بالفنون والإبداع، والعجيب الفريد في هذه المقاطعة التاريخية للشعب المغربي أن رفعت فنانين "مغمورين" ووضعتهم في مصاف "النجوم" المشهورين، وأسقطت القناع عن "آخرين" معروفين أصبحوا بين عشية وضحاها من المنبوذين، غير مأسوف عليهم!

الزبون الملك

ألم يقولوا أن "الزبون ملك"، فكيف تلومون "ملكا" يسعى بكل السبل لاستعادة "ملكه" فمالكم كيف تحكمون! هذه خلاصة الحكاية أيها السادة، لقد قبل الزبون الطيب بأن يكون متواضعا طيعا، ولكن تواضعه أسال لعاب الطامعين المتحكمين المتسلطين، فقرر أن يستعيد "سلطته" ويسمع "صوته" ويفرض على "خدامه" احترامه، هذا هو الوضع الطبيعي، وعلى الجميع أن يسمع صوت "الملك" ويسارع في إرضائه وتلبية رغباته، وكل من سولت له نفسه مواجهة رغبة "الملك" جهلا أو استهتارا أو تكبرا فلا يلومن إلا نفسه، فها قد دشن "الزبون الملك" مرحلة جديدة في استعادة ملكه الضائع، وما ضاع حق وراءه طالب، ولعمري إن حركة احتجاجية "افتراضية" ترافقها الأغنية والتمثيلية والابتسامة والسخرية، لا يمكن لنا إلا أن نصفق لها بكل براءة وعفوية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.