شعار قسم مدونات

كيف تجد لنفسك دورا في الدفاع عن الأقصى؟

مدونات - اقتحام الأقصى وتوحيد القدس

تصلِ التنبيهات على الهاتفِ تِبَعاً، صورٌ من المسجد الأقصى ومقاطعَ فيديو تُظهره مُمتلئاً بمئات المستوطنين الذين دخلوه صباحاً على هيئة عصابات اتفقت فيما بينها على ذلك بعدما دعت منظمات الهيكل اليهودية الثلاثاء الماضي إلى تكثيف الاقتحامات للمسجد الأقصى، مُطلِقةً هذه المنظمات "هاشتاغ" تحت مسمَى ألفا مقتحمٍ في يوم القدس. ليتزامن ذلك كله مع ما يسمى "ذكرى توحيد القدس" حيث تحتفل إسرائيل بما تسميه الذكرى الواحدة والخمسين لاحتلال ما تبقى من مدينة القدس المحتلة وضمه للقسم الغربي من المدينة.

 

ينتهي الخبر، ونكادُ أن نصلَ لمرحلةٍ من التخدير تجعلُ كلّ الصور أمراً عابراً، ربما ليس أمراً عادياً لكنه عابر؛ واقعُ لا يمكنُ لجالسٍ بأرضٍ بعيدةً أن يغيّره، بل حتى مَن يجلس على مقربةٍ من الحدث؛ فلا شيء يمكن أن يفعله أمام هذه الهجمات المتتالية، وأمام هذا القرار الدولي بأن يكون للصهيوني وجود وسيطرةٍ على هذه الأرض. ينتهي الخبر، وهذا ما يتبادر لذهن كثيرين، وهذا الخاطر الذي يتبع الصور التي تُظهر فتيةً وشيباً وشباباً يُلقونَ أنفسهم على أرض الأقصى في طقوسِ صلاةٍ يؤدّونها، وحركات يستفزون العالمَ بها.

 

القدس التي دمّرها "نبوخذ نصر" هي ذاتها التي فتحها "عمر" ذاتها التي أُحرِقَت في عهد "نيرون"، ذاتها التي حُررها "صلاح الدين"، ذاتها التي يحتلها "كيان صهيوني"، ذاتها التي "تنتظرك"

لا أعرفُ القدسَ إلّا عقيدةً لا أجدُ فيها شكّاً أبداً، علّي سمعتُ القدس أحاديث أهلٍ وأجدادٍ خرجوا منها في نكبةٍ أو نكسةٍ أو تغريبةٍ أو غير ذلك، وعلّي رأيتُ القدسَ في عيون أهلها الذين يرابطون على ثغورها ما استطاعوا لذلك سبيلاً، لكنني بين هذا وذاك لم أعرف القدس إلّا حقيقةً لا أجدُ فيها ظنّاً ولا شبهات.. أنا أعرفُ القدس من سورةِ الإسراء، أقرأها أرضاً مُباركةً يعدِ اللهُ بها مَن صلُحَ من المؤمنين ومَن كان لها أهلاً. تصلني اليوم الصورَ والرسائل فلا أجدُ أمامها إلّا آية واحدةً تتردد في داخلي: "وَلَتَعلُنَّ علوّاً كبيراً"، أنظر للصورِ وأرى فيها شيئاً من الـ"علوِّ" الذي سيكون لبني إسرائيل في هذه الأرض، أرى ذلك واضحاً جلياً ولا أجدُ فيه مُخدّراً بأن هذا قضاء الله وحكمه في هذه الأرض، بل أجدُ فيه تأخرنا بأن نكون مِمّن قال الله -عز وجل- عنهم في الآية التي تليها: "عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ".

 

أؤمن بالنصر الحتميِّ وأدركُ أنّ هذه الأرض ستشهدُ تكبيرات الفاتحين يوماً، وسيسجد الناس على أعتابهاً شكراً لله وحمداً.. لكنّني أؤمن أيضاً أن النصر لا يتنزّل من السماء بلا سبب، ولا يقدُم للناس بِسِلالٍ خفيةٍ لا ندري من أين أتت، بل بعدّةٍ وعتاد. لا تُنصَرُ أمةٌ تكتفي بالنظر للمشاهد دون أن يحدث هذا النظر في داخلها أثراً، لا تُنصَرُ أمةٌ تكتفي بالـ"حوقلة" أمام المشاهد ثم تنتهي وكأن شيئاً لم يكن، لا تُنصَرُ أمةٌ يتبادرُ أبناؤها بإلقاء اللوم على كلِّ مَن حولهم ويتغاضون عن لومٍ يُلقى على كلِّ فردٍ فينا.

  undefined
 

ليست العبرةُ في أن تمرّ علينا الذكرى السبعين للنكبة دون أن ننساها، وليس الإنجازُ في أن نتذكّرَ تفاصيلَ النكبةِ وما حلّ بها، وليسَت غايةُ الأمر أن يبقى كلٌّ منّا مُدركاً لأصله وانتمائه والبلد الذي أُخرجَ أهله وأحبابه منه؛ فكلُّ ذلكَ ليس فضلاً نتفاخر به، ولا تحقيقاً نعتزُّ به، بل هو واجب الأبناء الذي إن غفلوا عن الأذى الذي نالَ الآباء والأجداد، وإن تناسوا الحقّ الذي سُرِق فما هم إلا زبدٌ على وجه الأرض يمضي دونَ تحقيقِ غاية أو حضارة. إنّ العبرة في مرور كلّ الأحداث، الذكرى بأعدادها المتراكمة عاماً تلو آخر، والاقتحامات المتزايدة يوماً تلو آخر، والتقسيمات التي باتت واقعاً يحاول مَن ثبتَ من المقدسيين على قضيته مقاومته حتى آخر رمق، ومقبرة الرحمة التي يُعتدى عليها، وشباب القدس ورجالها الذين يُعتقلون حيناً تلو آخر، ونساء الأقصى الذين يُمنعون حتى من دخوله، ونحنُ الذين نرى فلسطين على بُعدِ أمتارٍ ونُحرَمُ سجوداً على أرضها ومشياً تحت سمائها، كلّ ذلك وغيره من الأحداث لا عبرةَ حقيقيةَ له إلّا أن يُحدِثَ فينا فرقاً.

 

إن القدس التي دمّرها "نبوخذ نصر" هي ذات القدس التي فتحها "عمر بن الخطاب"، هي ذاتها التي أُحرِقَت في عهد "نيرون"، ذاتها التي حُررت على يد "صلاح الدين"، ذاتها التي يحتلها "كيان صهيوني"، ذاتها التي "تنتظرك".

 

علّك لا تقفَ اليوم على عتبات المسجد الأقصى لتدفع عنه كلّ مُقتَحِمٍ مُستفِز، علّك لا تجدُ سبيلاً للوصول إلى مقبرةِ الرحمة لتلقي نفسك فوق قبورها تحاول أن تحميها بكلّ ما أوتيتَ من قوة، علّك ترى الصورَ وليس أمامكَ أي طريقٍ مباشرٍ للدفاع عن أهلها، لكنّ هذه الصور وهذه الأحداث لا بدّ أن تحدث فيكَ أثراً، لا بدّ أن تدفعكَ لأن تبذل كلّ ما أوتيتَ من عزمٍ لكَي تُحرِّكَ كلّ ساكن، وتسدّ كل ثغر.. لكي تربي نفسكَ وأبنائك وأجيالاً من بعدك لتكون أهلاً للنصر والفتح.. لكي تجد لكَ دوراً تؤديه بكلّ تفاصيله، وتصبر عليه بكلّ صعوبته.

 

اقتحموا المسجد الأقصى.. وانتشرت آلاف الصور.. وربما تنام اليوم دونَ أن تغيّر في مجرى المشهد أمراً، لكن لا تنم دونَ أن تجدد في نفسكَ عهداً بأنّكَ فردٌ من أمةٍ، وأنّ الفردَ جماعةٌ وإن كان وحده، فكيك وإن كان ليس وحده أبداً، بل رفيق كلّ مَن يؤمن بالقدس عقيدةً وبوصلةً لا نعرفُ عنها صِرفاً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.