شعار قسم مدونات

يوميات.. أنا واللعنة

blogs فتاة تسير

رنين الهاتف لا يهدأ، هو ذاته، هو نفس الصوت الصباحي المقيت الذي ينفر جفنيّ عيني عن بعضهما ليسمح للنور أن يتسلل كله دفعة واحدة بلا رحمة أو رأفة إلى هاتين الكرتين لأبتدأ بذلك يومي عُنوة ولتبتدئ معه أولى اللعنات والكثير الكثير من التذمرات. 

إنها الساعة الثامنة الأن من صباح أحد أيام شهر نَيْسان، نظرة واحدة من نافذة الغرفة إلى الأرضيات المبللة والأشجار المُثقلة كانت ولا بد كفيلة لتعطيني نشرة جوية وتخبرني حالة الطقس، أنهض، أتأمل المرآه، أرى هالة الظلام تحت عيني تكبر أكثر فأكثر وارتجاع العينين إلى الخلف يزداد وبشكل ملفت، بالإضافة إلى بعض النتوءات البارزة هنا وهناك، كلافتة معبرة عن سوء وحدة القلق الذي أضع نفسي فيه يومياً، لألعن وأخيراً المستقبل والتعليم والدراسة.

أسير وبتململ إلى محطة الحافلة، أسير من طريق ينطق بفشل مصمميه، إلى طريق شاهد على قذارة كل محتال وفاسد. لأصل في نهاية المطاف إلى المحطة لأنتظر أي حافلة تخلصني من تعب الوقوف وملل الانتظار.. لكن وصول الحافلة لا يعني بالضرورة الفرج، بل يعني أحياناً المزيد من الوقت الضائع والمهدر لإشباع جشع بعض الساقة ونهمهم. لألعن وأخيراً مسؤولي البلد وفسادهم وفساد خدماتهم.

في الطريق إلى الكلية، فضّلت الجلوس وحدي على مقعد منفرد، فقط أنا والنافذة وصوت ماجدة.. لتستوقفني ماجدة بعبارة "كن صديقي"، لأنفث بعض الهواء استهزاءً.. أي صديق هذا يا ماجدة ومجرد سلام لزميل يقلب قضية ومجرد كلام يفسّر بألف نيّة. لألعن وأخيراً تفكير البعض ورجعية البعض الأخر، ليتردد صدى فكرة الهجرة والرحيل في كياني.. أنا لا أريد أن أبقى هنا! فلا مكان لي هنا!

المشاهد التي حدثت معي، دائماً ستكون حاضرة حولك، فقط انتبه، اصغِ، وكف عن التذمر، والأهم من هذا كله ألا تجعل اعتياد النعم ينسيك قيمتها

إنها الساعة العاشرة الأن، على أعتاب الكلية أقف، لا رغبة لي في الدخول إنما الإجبار هو سيد الموقف.. لأبتدئ أولى محاضراتي بمحاضر فاسد لا يعي شيئاً من الذي يقول.. لتنتهي هذه وتبدأ واحدة أخرى متوّجة بعبارات الإحباط وتحطيم الثقة والاتهام بالفشل.. يرتفع صدى الفكرة مرة أخرى.. أنا لا أريد أن أبقى هنا! فاللعنة كل اللعنة على كل هذا.

في طريق العودة والخروج من الكلية، أسير كالعادة بوجه ممتعض، وبقدمين كسولتين.. لأصادف فتاة تماماً مثلي لكن بوجه مشرق وبقدمين مبتورتين تجرها رفيقتها على مقعد متحرك، كل معالم الحماس كانت جلية على محياها وكل الإحباط والقنوط في داخلي أنا، حينها فقط لعنتني الحياة بروح هذه الفتاة.

عند المحطة، استوقفني منظر بائع العلكة الصغير، بملابسه الرثة الملطخة بالتراب وبعيونه العسلية الجميلة وأنفه السائل وشعره الملفوف بدقة وهدوئه وابتسامته الملفتة للنظر! عندما اقترب صوبي أكثر وعرض علي ما يمتلك من علكة.. لم أستطع الرفض فقدمت له المال غير راغبة في علكته لكن عزة نفسه لم تسمح له إلا أن يعطيني بعضاً منها. هذا الصغير لم يتجاوز السادسة من عمره حتى، يجوب الطرقات بائعاً لعلكته تاره وبائعاً للمناديل على الطرقات وبين المركبات تارة أخرى. مجبراً على أن يترك طفولته جانباً ويبحث عن مصدر عيش لنفسه. هذه المرة، وكأن الحياة لعنتني مرة ثانية بابتسامة هذا الفتى وعزة نفسه.

في الحافلة تجلس إلى جانبي فتاة من طلبة الثانوية العامة، التي تتحدث وبأسى، عن حلمها في دخول كلية الطب الذي تبخر مذ صدرت نتائج الدورة السابقة، لتنهي حديثها بكلمة "نيالك" بلهجة كلها غبطة وأيضاً بالتأكيد حُرقة! لتلعنني حرقتها هذه ألف مرة. إلى الخلف تماماً، يدور حديث من نوع أخر بلهجة أخرى بقدر جمالها بقدر قسوة باطن الكلام فيها، واحدة تشكو لرفيقتها موت أختها التي غادرت هذا العالم دون أن تودعها والأخرى تتأوه ألماً وتشكي تأخر موافقة المنظمة التى تؤهلها لبدء علاجها. ليلعنني "الوطن" هنا لعنة ليست كأي لعنة!

في طريقي إلى البيت، أرى أمي واقفة على الشرفة بشعرها القصير الجميل تنظف أوراق ورودها بعناية تامّة لتلمحني أخيراً وتلوح لي من بعيد وترسل لي ابتسامتها وقبلاتها.. هذا المشهد لوحده جعلني أردد في باطني: أنا أريد أن أبقى هنا! فهنا أمي. وأنا حيث أمي تكون. هذه المشاهد التي حدثت معي، دائماً ستكون حاضرة حولك، فقط انتبه، اصغِ، وكف عن التذمر، والأهم من هذا كله ألا تجعل اعتياد النعم ينسيك قيمتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.