شعار قسم مدونات

تزوج من تريد.. لكن لا تنسى حبيبتك الأولى

blogs - love

تزوجت في سن السابعة عشر، بعد عشر سنوات طلقني زوجي وتزوج فتاة أخرى، تأثرت كثيرا خاصة أنّني كنت مسؤولة عن ابني، حاولت دائما جاهدة ألا أُشعره بغياب والده. انشغل طليقي عن طفله، فلقد أصبح له عائلة أخرى ومسؤوليات أخرى. كنت كل يوم أخوض حربا تحت عنوان تزوجي، أمي كل يوم تخبرني أنّني غير قادرة على حماية طفلي ولا على تحمل عاهات الناس الذين كنت بطلة حكايتهم التي حقا لا أعرفها. لن يسكت الناس إلا أذا تزوجت مرة أخرى، فالمطلقة تموت قهرا كل يوم بسبب كلماتهم، شكوكهم وأحكامهم القاسية الغير مبررة.

تقدّم لخطبتي عدة عرسان، رفضتهم جميعا لأنّني كنت حقا سعيدة ولا أشعر بالوحدة كما يزعم الجميع، طفلي أزهر حياتي وكان سبب سعادتي وذلك الجدار الذي أتكأ عليه عندما أميل وأوشك على السقوط. أذكر ذلك اليوم عندما تقدم لخطبتي قريبي، يومها أمي حاولت جاهدة اقناعي بالقبول وأخبرتني أنّهه غير رافض لأبني وسيكون الأب المناسب له وسيعوضه عن الحرمان الذي عاشه.

لا أنكر شعوري بالتعب من العمل الشاق في المزارع وكم ملّلت كلام المجتمع الذي لا يرحم المطلقة، حيث يحاسبونّها وكأنّها قد ارتكبت جرما ويتناسون أنّ الطلاق ليس بالعيب، هو فقط نهاية تجربة مُقدر لها أن تنتهي، وبداية أخرى، بداية حياة أخرى بحكمة ونضج أكثر، بعين ثالثة أكثر إبصارا ووعيا. قررت قبول عرضه لكن ابني لم يتقبل قراري، قرأت في عينيه قهرا، لوما وعتابا كبيرا، صمتَ لأيام وأصبح يتجنب النظر إليّ بعد ذلك قال هل ستتزوجين يا ماما وتنسيّني كما فعل بابا، هل ستتركينني؟
 

أخي الكريم، لك أن تتخيّل حالك بعد عقوقك لوالدتك، ستصبح حياتك خريفا حزينا، ستذبل روحك كل يوم، سينبض قلبك شوقا وحنينا، ستصبح مثل سفينة تائهة بين الأمواج، لا ميناء لها

صُعقت بكلماته، قلت له لن أفعل يا ماما، لن أتزوج، يومها وعدت ابني، وعدت نفسي، أنّني سأكرسُ حياتي له فقط، لن أتزوج، وأذن صماء كانت الحل الوحيد كي أسعد في عيشي، فالناس لا يسكتون في كل الحالات، يبحثون دائما عن شيء لا يعنيهم، يتحدثون عنه وان لم يجدوا اختلقوه، ويتناسون أنّه من حسن إسلام المرء، ترك ما لا يعنيه. لا أنكر أن حياتي كانت صعبة، كنت على ضفاف الانهيار كم من مرة، عملت في المزارع وتقاضيت مبالغ زهيدة، لم أستسلم. كان طفلي سبب صبري وكفاحي، كان شعاري الدائم لن أتركك يا ماما.

وفيتُ بوعدي ونجحت في تربيته وزوجته، لكن هل تعلمين المؤلم في حكايتي؟ أنّ من طلّب مني أن لا أتركه، تركني بعد زواجه، تركني لأنّني لا أروق لزوجته، ما قهرّني هو أنّ من ضحيت من أجله ضحى بي، من اخترته لم يخترني، من اهتممت به أهملني وأقصاني من حياته. نعم أنا فارقت الحياة عندما تركني ولم يبالي، خاصة عندما أخبرني أنّ زوجته لا ترغب بوجودي في منزله. الموت يا صغيرتي ليس توقف القلب عن النبض، الموت الحقيقي يكون بسبب خيبات قاسية لم نستعد لها ولم نتوقع حدوثها يوما. وعدني أنّه سيزورني كل يوم، صدّقته ولكنّه كذب يا ابنتي من جديد، لم يكسر قلبي طليقي، كسره ابني ولم يكترث، ابني الذي فرحت عند ولادته، لأنّني أنجبت رجلا سيحميني، ابني الذي تأملّت فيه خيرا، ابني الذي نسى أنّني أمه، ابني الذي فارقني وأعجبه الفراق.

هذا كان حديث الخالة (م)، كانت تروي قصتها بابتسامة وتختتمها بدموع مؤلمة، كل يوم تروي الحكاية عينها وكل يوم نفس اللوعة، القهر، والألم في زوايا عينيها، نقول الزمن كفيل كي ننسى ولكن هناك جراح لا تُنسى، قُدر لها الحياة معنا، ثم تختم كلامها بلن أسامحه أبدا مهما حييت. أذكر ذلك المساء، يومها لم تأتي الخالة (م) لمنزلنا وعندما سألت أمي عنها، أخبرتني أنّ ابنها مريض وقد ذهبت لزيارته، كنت دائما أستمع لحديثها ولا أبكي لعلّني تعودت على سماع قصتها الحزينة، أتأسف لحالها ولكن يومها بكيت فعلا، الأم يا سادة هي الوحيدة التي تعطي رغم حاجتها، هي التي تٌضمد الجراح وهي تنزف، الأم هي التي تُداوي وهي مجروحة، فما أروع وجودها. غريب أمرنا اليوم كيف أصبحنا نستهين بغضب أمهاتنا، اليوم نستمع لحالات مشابهة، أم تبكي من ابنها الذي يفضّل زوجته عليها، الأخرى تشتكي من قلة زيارة أبناءها لها، الأخرى تقول أنّ ابنها عنّفها، أضحى العقوق منتشرا بصفة مزعجة في مجتمعاتنا حتى أخذ البعض يستسهله ويستهين به.

أخي الكريم، لك أن تتخيّل حالك بعد عقوقك لوالدتك، ستصبح حياتك خريفا حزينا، ستذبل روحك كل يوم، سينبض قلبك شوقا وحنينا، ستصبح مثل سفينة تائهة بين الأمواج، لا ميناء لها، بحر العقوق لا ضفاف له، لن يرحمك، بحر كلّه صعوبات وعقاب. فلتعلم أنّه لا حياة بعيدا عن الأم، لا حياة بعيدا عمن أفنت عمرها في تربيتك، عمن بكت لبكائك، عمن فرحت لفرحك، عمن حرمت نفسها من الكثير لأجلك. أهكذا تفيها حقها؟، روى البزار أن رجلًا كان بالطواف حاملًا أمه يطوف بها، فسأل النبي "صلى الله عليه وسلم" هل أديت حقها؟ قال: "لا، ولا بزفرة واحدة"!.. أي زفرة من زفرات الطلق والوضع. اعلم يا أخي أنك ستسأل أولا عن أمك، جاء الرجلُ إلى النبي "صلى الله عليه وسلم" يسأله: من أحق الناس بصحابتي يا رسول الله؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أبوك".


جميل أن تُحب، جميل أيضا أن يُتوج ذلك الحب بزواج، جميل أن تُحسن لزوجتك، جميل أن تكون مخلصا ومحبّا لها. جميل أن تسعد في حياتك الجديدة، لكن لا تنسى كم هو قبيح أن تنسى من أحببت أولا، قبيح أن تتناسى مجهوداتها، قبيح أن تقصيها من حياتك متناسيا ما فعلت من أجلك، فقط لأنّ زوجتك تنزعج من وجودها أو من زياراتها، متناسيا كل تضحياتها، متناسيا كونها حبيبتك الأولى، متناسيا أنّها من علمتك الحب، من أوقفتك عندما سقطت، من دعمتك عندما خذلك الجميع وخذلت نفسك، من بكت لبكائك، من فرحت لفرحك، من حزنت لحزنك، من أحبتك ناجحا، فاشلا، مريضا، معافا، متلعثما، باكيا، من أحبت عيوبك وأنكرت وجودها، من جعلتك ذلك الشخص الذي أحبته زوجتك. متناسيا كونها أمك.

مهما كان المشكل لا تراهن بوالديك، لا تفكر في التخلي عن أمك أو أبيك مهما كلّف الأمر، لا تجعل عقوقهما حلاّ لمشاكلك
مهما كان المشكل لا تراهن بوالديك، لا تفكر في التخلي عن أمك أو أبيك مهما كلّف الأمر، لا تجعل عقوقهما حلاّ لمشاكلك
 

لا أحد يعارض فكرة الزواج، تزوج من تريد لكن لا تنسى من أحبتك أولا. لكل فتاة تسعد عندما تشعر أنّ زوجها يفضّلها عن أمه، عزيزتي لا تثقي بمن أبكى أمه من أجلك. فلتعلمي أنّ من هانّ عليه غياب القمر، لن يكترث بالنجوم. لا خير فيمن عاق والدته، لا خير فيمن لا يحترم والدته ولو أتاك بالنجوم. أما تلك التي تُغيب أم زوجها عن قصد ويحلو لها ذلك، ستكونين أمّا يوما ما.

مهما كان المشكل لا تراهن بوالديك، لا تفكر في التخلي عن أمك أو أبيك مهما كلّف الأمر، لا تجعل عقوقهما حلاّ لمشاكلك. لك في علقمة عبرة، ذلك الشاب الذي عجز عن نطق الشهادة، رغم اجتهاده الديني، بسبب سخط أمه له وغضبها، التي أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنّه يؤثر زوجته عليها. إن سخط أم علقمة حجب لسانه عن الشهادة أما رضاها أطلق لسانه. قال النبي صلى الله عليه وسلم من فضل زوجته على أمه فعليه لعنة الله والملائكة ولا يقبل منه صرف ولا عدل.

ينسجم الحب، الحنان، العطاء في قلب الأم كانسجام النور، العطر، الماء والهواء في الزهرة الجميلة. حضنها ينتشلنا من أحزاننا، اتصالا منها ينسينا أوجاعنا، صوتها يريحنا، فعلا صدق شكسبير: "ليس في العالم وِسَادَةٌ أنعم من حضن الأم". الأم هي تلك الزهرة الجميلة ، عندما نهجرها نحن نذبل لا هي، هي الشمس التي تضيء حياتنا، تلك الشمس الحنون التي لا نريدها أنّ تفل، بعقوقها، ينبعث ليل قاسي، غاضب، ليل الاشتياق، الحرمان والعتب، لا تستهين بليل العقوق، فلا قمر يضيئه ولا صباح يليه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.