شعار قسم مدونات

الكذب على الذات.. نفاق جديد يشوه نفوسنا

blogs جلسة مسائية

أسئلة تعبر عن بدء رحلة البحث عن الهوية، أولى بوادر التحرر، وأول علامات الاستقلال.. وقفة مع الذات، تجميد لتروس آلات الحياة المتداخلة حد التعثر، الدائرة بلا توقف تدفع بعضها بعضًا إلى نهاية غير واضحة المعالم.. تأخذنا في طريق ضبابي طويل إلي حيث أرادت بنا أن نكون! تلك هي اللحظة حيث يتوجب عليك أن تُحلق بعيدًا عما يعيق تحررك من مكبلات الدنيا، فالانتظار حيث تقف لن يُجيب عن سؤالك الحائر، وخُطاكَ الواسعة لن تستطيع مجاراة تيهِ ما ستتخبط بينه من إجابات كثيرة متفرعة لا نهاية لها!

فلا تسلك مسالك السالكين، ولا تطرق أبوابًا فُتِّحَت مرارًا بأيدي آخرين، ولا تبحث عن الطريق، فسوف يجدكَ طريقك الخاص الذي لم يعثر عليه أحد بعد.. فقط، حلّق عاليًا.. ابتعد إلي سماءٍ خلفَ السماء.. تحرر من كل ما يكبل روحك إلي الأرض من خيوطٍ واهية، فإما أن توقن بجهلك فيغمرك نورُ اليقين، وإما أن توقن بِعلمك.. فيغلفك ضلال ضوء مزور يُدعى الغرور، وما الغرور إلا صورتكَ المنعكسة في مرآة الأنا، ومن منا يرى ذاته كما يراها الآخرون؟ بل من منا يراها على حقيقة ما تكون!

كل إنسانٍ -شاءَ أم أبى- هو في رحلة بحثٍ حثيث عن هوية توافقه، هماك من يكتي بتقمص هويةٍ ما أمام الآخرين وما أن يختلي بنفسه يخلعها عن ذاته وكأنها قناع انتهى دوره لحظة الانعزال! وهناك من يكتفي بمجرد ادعاء وجودها دون بذل جهدٍ يُذكر حتى في تقمصها، وهناك من يبحث جاهدًا للحصول على هوية وإن كانت لا تشبهه في شيء، يتشبث بها ليؤطر أبعاد ذاته فيتحول بها إلى كائن متعصب، يصعب عليه تقبل أي فكرٍ جديد أو مخالف لهويته الزائفة، فذلك يهدد هويته المزعومة للفقد والتبديد..

 

وربما يُصيب صورته الذهنية عن نفسه بخلل أو ارتباك، فيكون علي أتم الاستعداد لأن يغالط المنطق ويبطل الحقائق الواضحة نسبيًا، ويؤرجح الثوابت الموزونة، بل ويشوه الأخرين ويبدل مبادئه ويعيد ترتيب قيمه وحذف ما قرر التنازل عنه منها وإضافة ما تدعوه المصلحة للتحلي به.. في سبيل الحفاظ على تلك الهوية المزعومة التي ناضل في مفهومه للحصول عليها.. ولكن في غير ساحات النضال.

قد تتشكل الهوية الحقيقية بمعطيات وتفاصيل خارجية، قد تتأثر بكل ما يحيط بها ولكنها مرتبطة بجوهرك الحقيقي، فهويتك منبعها هو أنت!
قد تتشكل الهوية الحقيقية بمعطيات وتفاصيل خارجية، قد تتأثر بكل ما يحيط بها ولكنها مرتبطة بجوهرك الحقيقي، فهويتك منبعها هو أنت!
 

ومسالكُ أخرى كثيرة، تُفضي جميعها إلى تدميرٍ ذاتي بل وشامل لكل من هم حوله. وأولئك في الحقيقةِ أشدُّ ضلالًا ممن لا يملكون هوية واضحة لأنهم مدعون والادعاء صورة من صور الكذب المتعددة وإن كان بهدف التجمل.. وأسوأ حالات الادعاء هو الكذب على الذات ومن ثم تصديق هذا الكذب.. والكاذب هو إنسان لم يملك من الشجاعة ما يكفي لمواجهة نفسه وبالتالي فقدْ فقدَ قدرته على مواجهة الآخرين.. فكيف له أن يواجه الحقيقة! ومواجهة الحقيقية تتطلب الكثير من الشجاعة.. فقد تكون ضد ما تميل إليه نفسك.. واعتمار الصدق يتطلب الكثير من القوة.. فقد يكون ضد ما تتمناه نفسك..

كثيرون هم من يربطون هويتهم المُدعاة بعوامل ومتغيرات خارجية كالمادة أو الأفراد، وهنا تكمن المشكلة! فكل مادي إلى زوال، وكل قلوب البشر إلى حيث لا مُستقر! فإذا ما زال عالمه المادي.. زالت هويته المزعومة، وإذا ما انقلب عليه الآخرون.. انقلبت هويته المُدعاة ضده، فازداد انجرافًا ببئر التيه، ليصبح أكثر ادعاءًا.. وأعمق كذبًا.. وأشد ضلالًا.

قد تتشكل الهوية الحقيقية بمعطيات وتفاصيل خارجية، قد تتأثر بكل ما يحيط بها ولكنها مرتبطة بجوهرك الحقيقي، فهويتك منبعها هو أنت! ونحن لا نختار ذلك ولا نقرره، وإنما تحسم قضية الهوية بالصدق مع الذات وبالفطرة وبالاستسلام.. بالتحرر من الفكر الشخصي أو القبلي.. والتوحد مع عالم لا متناهي من الحرية. فإن أردت لذاتك هوية حقيقية، فكن صادقًا مع ذاتك، فقط.. كن نفسك! ولا تفتعل الاختلاف.. لأنك بالفعل مختلف! ولأن افتعال الاختلاف لن يصنع منك سوى مسخًا مشوهًا، هو أبعد ما يكون عن حقيقتك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.