شعار قسم مدونات

هل أصبح النفاق من سمات المجتمع المسلم؟

blogs الهوية الإسلامية

في مدينتي التي لم يحفظ لها الدهر إلا طبيعتها الرهيبة وبضع أزقة قديمة ثابتة في وجه التخريب البشري المبرمج وقعت مآسي رافقت دخول المحتل الفرنسي سنة 1837 ينقل لنا المؤرخون أن النساء كن يرمين بأنفسهن من حواف مدينة قسنطينة القديمة الشاهقة الارتفاع ليهوين حطاما في قعر وادي الرمال السحيق كلما أدركن أن المحتل الفرنسي قد توفر له من النصر ما يسمح له من النيل من أعراضهن. سمعت إحدى العجائز تروي كيف أن جدها الذي كان يعمل في حقل القمح والحر يلفح وجهه عاد مسرعا لدياره وهو يصيح جاء النصارى الرحيل الرحيل كل هذا من أجل قبعة أوروبية حملها الريح لحقله قبل أن تصل قوات المحتل الفرنسي للمنطقة.

منذ أن بعث الله محمدا نبيه بالحق والإسلام يسكن قلوب الناس ويسبق مصائرها حينها كانت هوية المسلم واضحة بينة متجانسة لا يخلخلها إلا انتماؤه العرقي أو القبلي الذي كان يلين بدوره في وجه العقيدة الإسلامية المتمكنة في نفوس المسلمين. حاول الإسبان جاهدين على مر قرون أن ينزعوا الإسلام من قلوب الأندلسيين المدجنين في الأراضي الأندلسية المحتلة في بدايات ما يسمى بالاسترداد ثم عملوا بإصرار كبير وقسوة ظالمة من أجل طمس هوية المسلمين الباقين بعد سقوط الأندلس النهائي ولكنهم اصطدموا بواقع لم يستسيغوه ولم يفهموه لقد أدركوا أن هوية المسلم صلبة المراس لها قدرة شديدة على مقاومة كل ما هو غريب عنها فرغم محاكم التفتيش وقوانين الكنيسة الصارمة وعقوبات الحرق والسجن والعذاب لم يتخل المسلم عن صلاته ولا المسلمة عن خمارها ولم يتوقف المسلمون عن تدارس القرآن ولا عن الدعوة لدينهم والحث على الالتزام به.

لا يفهم غير المسلمين هذا البون الموجود بين مفترض المسلم وبين واقعه إنهم لا يتقبلون هذا الرقص على حبال مختلفة الطبيعة وأنا وأمثالي لم نعد قادرين على أن نفسر هذا الوضع الغريب

قرن واحد كان كاف لجعل المسلم الثابت يتحول إلى مسلم هجين يحسن الرقص بين ذاته المسلمة التي ورثها عن أهله وبيئته وبين رغباته وأهوائه التي كونتها فيه وسائل الإعلام الغربية ومظاهر العولمة الهدامة صار المسلم يمثل أكبر ازدواج تعرفه البشرية لدرجة أنه لا يدري إلى أي صف يميل بات التناقض يطبع حياته ويميز وجوده تراه يحرص على ستر أخته ومراقبة لباسها بينما يبحث في نفس الوقت عن متبرجة بلباس موضة من طراز عارضات الغرب تلقاه يزور المساجد جمعة والملاهي سبتا تألفه ينطق بعبارات دينية دوريا ويقوم بأفعال غير مشروعة في نفس الوقت.

المشكلة هي أن المسلم لم يطلب منه أن يكون مقدسا ولا أن يعيش الورع المطلق ولكن أمر أن يكون متجانسا بين عقيدته وأفعاله بين مصدر يقينه وأقواله لم يطلب من المسلم أن يقفز على ذاته البشرية وطبيعتها المتعلقة بأمور ضبط الشرع طرق الوصول إليها بل أريد منه فقط أن ينسق بين رغباته وأحواله النفسية وبين تصرفاته اليومية. من الأشياء التي اصطدم بها يوميا في معاملاتي مع غير المسلمين هو عدم فهمهم للشخص المسلم إنهم لا يفهمون كيف لأنثى تلبس الحجاب وتتجنب المجتمع الذكوري أن تحتال للحصول على إعانة اجتماعية ولا يفهمون كيف لمسلم يشرب الخمر ويأتي علاقات غير مشروعة أن يرفض طبق لحم خنزير بحجة أنه حرام ولا يفهمون كيف لشخص يخرج من الدوام يوم الجمعة قبل الوقت لأداء الصلاة ثم يسرق في عمله.

إنهم لا يفهمون هذا البون الموجود بين مفترض المسلم وبين واقعه إنهم لا يتقبلون هذا الرقص على حبال مختلفة الطبيعة وأنا وأمثالي لم نعد قادرين على أن نفسر هذا الوضع الغريب ليس في استطاعتنا أن نشرح التحول الرهيب الذي مس المجتمع الإسلامي بعد سقوط الخلافة وتمكن الاستعمار من كل الدول الإسلامية وكيف انحنى درب المسلمين ليسقط الجميع على حافتيه حد الانفصال عن الدنيا ومستلزماتها من عمل وبناء وحضارة وتطور وحياة وحد الانفصال عن الدين بما فيه من روحانيات وإيمانيات وضرورات ومناهج.

كيف لنا أن نوضح فقدان المسلم لثقته في ذاته وعقيدته وجعلها شماعة يعلق عليها الفشل الحضاري الذي وصلت إليه بلاده ما هي الطريقة التي نشرح بها عجز المسلم عن فرض ذاته دون أن يكتفه تصور الآخرة عن إصلاح الدنيا والمشاركة في عمران الأرض بل كيف نجعل المسلم يتوقف عن الرقص بين هويات متناقضة الوسيلة والغاية وأن نقنعه أن هناك منطقة وسطا بين الانعزال وبين الذوبان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.