شعار قسم مدونات

عندما قرأت للرافعي

blogs - الرافعي

بداية قبل أن تقرأ للرافعي يجب أن تقرأ عن الرافعي، مذاهبه وآراءه، حروبه ومناوشاته، تقرأ عن الرافعي الشيخ كما كان يصفه من قرأ له ولم يره، وعن الرافعي المحب صاحب أوراق الورد وحديث القمر والسحاب الأحمر، فكتاباته، جرعات مركزه من أدب العالين، بمثابة البذور، أن لاقت أرضا خصبة آتت أكلها، تنثرها في عقلك فيعمل العقل فيها بحقها، فتنبتت ما شاء الله من حدائق وأثمار، لي سابقة قراءة لبعض نصوصه القيمة، لكنني لم أقدرها حق قدرها، واكتملت بالتفريط ببعض كتب كنت قد اقتنيتها له.

 

ما جذبني للرجوع وأغراني لبداية جديدة مع الرافعي هي ثلاث مقالات نشرت في الرسالة عن الرافعي لتلميذه محمد سعيد العريان، وصف فيها الرافعي وأجاد، فأعجبني أسلوب الرجل في الكتابة، وقلت لنفسي هذا حال التلميذ فكيف بالأستاذ، عرفت بعدها كيف أبدأ مع الرافعي، فمفتاح بابه وحي القلم، وهو مجموعة مقالات اجتماعيه كتبها للرسالة ومجلات اخري ثم جمعت في كتاب، سمي الرافعي بنبي البلاغة أو نبي الكلمات، ذلك لأنه جدد الأدب العربي القديم ونفي عنه ما علق به من خوارج الكلمات، والتجديد صفة الرسالات فكل رسالة تجدد وتبنى بأروع حلة كيانا جديدا، كذلك الأدب والبلاغه جددهما الرافعي فصار بحق نبي الكلمات.

 

حين أقرأ له يبهرني أسلوبه الراقي وتجوله داخل شخصية أو موضوع حكايته حتي لكأنك تعيش دقات ثواني هذا الزمن القديم، بكلمات عتيده وبلاغة ساحرة ينتقل بك من ركن إلى ركن داخل أروقة القصة لتري وتعاين بعين أصحابها، وكثيرا حاولت ان أخذ زمام المبادرة لحل لغز من ألغاز قصته قبل أن أكملها (كثيرا حاولت أن أقفز بمخيلتي لاستشراف ما سيحدث أو لربما تمنيت أن أقوم بوشاية لأحد أفراد القصة بما يكنه الطرف الآخر له)، ثم يخلص للقيمة المرجوة من تلك الفقرة فيحللها تحليلا دقيقا لتخرج من قصته بدرس قيمي في قالب من القصة الرائعة.

 

وسبحان الله تأتيه الكلمات والمعاني طيعة ليشكلها على أي نسق أراد، فهو الهادئ الرقيق في غزله والحصان الجامح في توجيه الوصايا لأمته، شاء القدير ان يصاب بصمم تدريجي حتي وصل الثلاثين وفقد السمع تماما ساعتها اكتملت أدبيته وصار يلعب بالأساليب كعازف ماهر على وتر القلوب، ذلك الأصم الذي أسمع العرب ما أنتجته لغتهم فلا قاصي ولا داني من مثقفي الأمة لم يقرأ للرافعي أو على الأقل لم يسمع عنه.

  undefined

 

في كتاباته يجد المحب الغزل فاقرأ إن شئت أوراق الورد فهو يخبرك عن الرافعي حين أحب، وكيف تسرب ذلك السيل الجارف من الشعور إلى أنامله ومنها لقلمه ليرسم مدينة الحب الرافعيه، بيد أنها مدينة متوازنة لا تصرح فوق الدين ولا تنطفئ تحت كتمان الهوي، فحديثه شجرة وارفة في ليلة مقمرة تتمدد جوارها وتحكي مالا تسمعه لغيرك. يجد الزاهد في كتاباته الرقائق التي تفري قلبه شوقا لله وانسا به، لم يخترع الرافعي حرفا خلاف ال٢٨ حرفا عربيا، بل يكمن نبوغه في ما ألقاه الله على لسانه من الحكمة ليعوضه سبحانه عن نعمة السمع، ومن منا لم يحفظ أو يتغنى يوما بنشيده الرائع اسلمي يا مصر إنني الفدا. كل نبي كتب له من الله التمكين فتمكن الرافعي من لغته التي حرم من نعمة سماعها فعوضه الله بأن تجري اللغة الساحرة سيالة من تحت قلمه لتعجز ذوي الأسماع ليسمي بحق أيضا معجزة البلاغة.

 

قرأت للمنفلوطي قبلا وأعجبني الذي قد قاله جدا، لكني خرجت منه خالي الوفاض، خلافا للرافعي حيث أحاول الخروج لكن موجه العالي يجرفني لقاع بحره حيث الدرر، كلما غصت أكثر كلما اكتشفت عالمه ووكنوزه، فتخرج عليما بأسرار الأدب خبير، بعد جولات في أدبه تستطيع أن تقيم ما تقرأ وتعمل فيه قاعدة الذوق تلك التي تعلمتها مما يكتب وربما لن تجدها عند غيره، وحي القلم وما أدراك ما وحي القلم، أليس لكل رسول وحي ومعجزة!! فوحي القلم هو وحي ومعجزة الرافعي به دخل أسلوبه المتسلل قلبي وربما لو بدأت بغيره لما سلمت له، هو مفتاح حديقته حيث المعاني المثالية والنقد الذكي، قرأت في صفحات وحي القلم المعالم الأساسية للرافعي، رجل تأسلم على يديه الأدب، فهو هو عمدة الأدب الإسلامي.

 

للرافعي ينتسب الكثير أدبيا، فصار وحده مدرسة أدبية تحافظ على قيم مجتمعها وتتصدي لدعاة التغريب، الرافعي الناقد وما أدراك من هو، يكفيك في هذا الجانب كتاب السفود حيث الزمان والمكان الذي شوي فيه العقاد على النار الهادئة، ومعروف أن ما أنضج على نار هادئة كان اطيب الطعام، كذلك كان السفود وجبة دسمة تشتم رائحتها حتى قبل ان تطعمها، وتستطيع أن تقرأ أيضا تحت راية القرآن الذي عرض الشبهات وفندها ووقف فيه موقفا صلبا من دعاة التجديد والطعن في الشعر الجاهلي أمثال طه حسين وزمرته. كتب أيضا للرسالة فعلت به وذاع صيتها على أصداء الرافعي.

 

أفضت روحه إلى خالقها عن 57 عاما وهوا لا يزال في مهنته التي يكسب منها قوته، فلم يكن يتكسب بأدبه، كيف وهو نبي الكلمات أن يبحث عن دنيا !فصار اسما علما على شخص ليس ملك نفسه بل ملك للأمة ولن تنسي له الأجيال التي لحقته فضلا، ولن تسلم لغيره تلك المكانة العالية في الأدب الإسلامي فتاج الرافعي لا يزال لامعا يضوي بريقه كلما ازداد السفور الأدبي فتنظره من بعيد وتشير ناحيته مطمئنا فهذا هو الطريق وهذه هي العلامة..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.