شعار قسم مدونات

آلهة الانتصارات الصغيرة!

BLOGS أديل كورت

في يونيو من العام 1977 مرضت أديل جودل بشدة للدرجة التي أجبرتها على البقاء في المستشفى لأجل العلاج مدة ستة أشهر كاملة، في تلك الأثناء طمأنها زوجها أن كل شيء سيكون على ما يرام، لكن للأسف تحققت مخاوف أديل حينما عادت للمنزل، في يناير التالي، لتجد أن زوجها، الرياضياتي الأشهر كورت جودل، قد نزل وزنه حتّى قرابة الثلاثين كيلوجرامًا، لم يكن هناك مجال لإنقاذ جودل، لقد مات الرياضياتي الأفضل في القرن العشرين جوعًا!

 

حسنًا، الموت هو النهاية الطبيعية لكل حكاية، لكن دعنا من ذلك الآن، ويل فاريل هو شخص منتظم جدًا في حياته، يعد خطواته، درجات السلم، وحتى المرات التي يحرك فيها فرشاة الأسنان في فمه، لكن ويل يسمع إحداهن تتحدث، بشكل مفاجئ، من مكان غير محدد، لا يعلم فاريل إن كان من الداخل أو الخارج، عنه، سيدة ما تقص حكايته، حينما يتحرك فاريل تقول السيدة "وحينما يتحرك فاريل"، حينما يفكر في امرأة ما تقول "ثم يفكر فاريل في هذه المرأة"… الخ.

 

في الفيلم الشهير "أغرب من الخيال Stranger Than Fiction"، يكتشف فاريل أنه، لسبب كوني غامض، يعيش بداخل رواية تكتبها إحداهن، لكن نهاية الرواية مؤسفة حيث يموت فيها، يرتعب بطلنا فيذهب إلى أستاذ أدب يلعب دوره الرائع داستين هوفمان، البروفيسير هيلبرت، الذي يقول له أن الموت هو نهاية كل حكاية، ورغم أن كارين، مؤلفة الرواية، بعد أن عرفت بتلك الحكاية العجيبة، تغير نهايتها قبل موت البطل فيحيا، إلا أن هيلبرت يقول لها في النهاية عن الرواية أنها "جميلة، لكنها ليست الأفضل"، هيلبرت يرى أن الموت كان أفضل نهاية لرواية كتلك.

 

الواحد منّا لا يحتاج لأن يكون سوبرمان كي يصبح سعيدًا، إن مشكلة الحياة المعاصرة، ربما، هو أنها وضعت فينا معتقد يقول أنه لكي تكون سعيدًا يجب أن تكون الأفضل

الآن نعود إلى أديل، في الحقيقة لا نعرف الكثير عنها، لكن هذا القليل الذي نعرفه يعطينا انطباعًا عن البيئة التي نشأت فيها، فأبوها هو مصور غير محترف، ذا تعليم بسيط، أما هي فقد عملت راقصة في ملهى، تزوجت لمدة عام ثم فشلت الأمور، آديل هي، ببساطة، ومن وجهة نظر شخص يمجد القدرات الذهنية فقط، فتاة ذات كم محدود من القدرات، فشلت في العديد من التجارب، وربما كانت التوقعات عن لقائها الأول بجودل سنة 1928 في فيينا معروفة مقدمًا، فقط فشل جديد آخر.

 

لكن ذلك، لسبب ما، لم يحدث، في الحقيقة خاضت تلك الحكاية الغريبة بين أديل وجودل معارك حقيقية كي تستمر، فمثلًا، رفضت عائلة جودل تلك العلاقة بعد أن علمت بها، أديل تكبره بسبع سنوات تقريبًا، ولا أصل ولا فصل لها، كانت تعمل راقصة في ملهى ليلي، وجودل كان يتوقع رد فعل كهذا، حيث أخفى تلك العلاقة عن عائلته لفترة طويلة، إلا أنه بعد أن وقع في حبها أعلن عن ذلك وتزوجا بعد عشر سنوات من تلك العلاقة.

 

كان ما قدمته أديل لجودل استثنائيًا بشكل أو بآخر، لقد كان جودل مصابًا بدرجات من الوسواس القهري، ما دفعه للخوف الدائم من أن يصاب بالتسمم، كذلك كان يخشى أن يقتله أحد، أو أن يتسرب الغاز من الثلاجة فيقتله، لذلك كان يطالب أديل بترك نوافذ المنزل مفتوحة حتّى في الشتاء مع البرد القاتل وإلا لم يكن لينام، وكانت تقوم هي، وهي فقط، بطبخ الطعام بيديها، وتتذوقه قبل أن يأكله، كي يطمئن أنه ليس سامًا، حينما مرضت أديل لمدة ستة أشهر لم يثق جودل في أحد نهائيًا، خشى أن يموت مسمومًا فامتنع عن الطعام.

 

أحبت أديل هذا الرجل بكل ما به من هلاوس، وأحبها لدرجة أنه قال عنها أنها "صاحبة قدرات خارقة وأن لها موهبة في تخمين الأرقام"، ورغم أن السنوات العشرة الأخيرة كانت الأسوأ على الإطلاق، إلا أنها كانت الأكثر قربًا بينهما، ربما أحسّت أديل بتقدير من جانب جودل طالما تاقت له في وجوده، ربما شعرت أنها تحقق شيء ما في جعله يشعر بالرضا، في الولايات المتحدة كانت تعرّف نفسها على أنها "زوجة أستاذ في مؤسسة الدراسات المتقدمة"، وفي فيينا حينما حاول بعد الشباب من جماعة نازية التهجم على جودل حمته بجسدها، وضربتهم بالمظلة الخاصة بها على رؤوسهم حتّى تركوهما!

 

أديل امرأة بسيطة، بسيطة للغاية حينما نقيّمها بالمعايير المعاصرة، تلك التي تقولب البشر في نطاقات يمكن لها توقع كل شيء في المستقبل سوء كان العمل، الزواج، أو النجاح العام في الحياة، لن تأخذ الكثير من النقاط، في المقابل كان جودل أستاذ رياضيات عظيم، بل واحد من أعظم الرياضياتيين في التاريخ، لكنه، كشخص هش، يعرف جيدًا أين تقع مشكلته، رأى فيها، ورأت فيه، شيئًا لم يره أحد، شيئًا لا يمكن، ربما أن يراه أحد.

 

لكن ذلك بدوره يدفعنا للتأمل فيما نريده حقًا في حياتنا، بمعنى أنه يدفعنا للتساؤل: هل فقط نرغب في الحصول على ما يريد الآخرين الحصول عليه؟ نفس القوالب التي أثبتت التجارب صلابتها في مواجهة المشكلات؟ أم ما نريده حقًا؟ هل تلك العلاقة بين جودل وأديل استثنائية؟ بمعنى أنها تمثل الـ1 في المليون أم أنها الحقيقة؟ هل فكرت أديل أو فكر جودل في ذلك؟ مات جودل في النهاية، كل منّا سوف يموت ولا مشكلة قي ذلك، لكن هل استطعنا الإمساك بالسعادة رغم كل مشكلاتنا؟ هل استطعنا عبر اختياراتنا تحديد ما نود حقًا برغم التقاليد والمعادلات المجتمعية المحكومة؟ ساعتها لن يهم الموت، المهم هو ما فعلناه حتّى وصوله.

 undefined

في سنة 2013 كتبت يِنيك جرانيك روايتها التي لاقت بعض الشهرة "إلهة الإنتصارات الصغيرة The Goddess of Small Victories" لتحكي لنا، في خلطة مميزة بين الخيال والحقيقة، السيرة الذاتية لتلك المرأة، وكيف عاشت مع كورت جودل، كيف تمكنت، بتعبير الصحفي الألماني تيل هاين، "تلك التي ضربت النازيين بالمظلة، وذاقت الطعام من أجله، تلك التي قال أن لها قوى خارقة، وأن الحياة من دونها لا معنى لها"، كيف تمكنت راقصة الملهى الليلي من إنقاذ الرياضياتي العظيم؟

 

لا أعرف في الحقيقة، لكنّي أعرف أن الواحد منّا لا يحتاج لأن يكون سوبرمان كي يصبح سعيدًا، إن مشكلة الحياة المعاصرة، ربما، هو أنها وضعت فينا معتقد يقول أنه لكي تكون سعيدًا يجب أن تكون الأفضل The Best، أن تكون الأذكى والأقوى والأبعد رؤية والأكثر في العلاقات والأكبر في الحجم حتى، لكن أديل، تلك المرأة البسيطة، لم تمتلك أي من تلك القدرات، لكنها ربما كانت مقتنعة بفكرة، فكرة يلخصها لنا ماكس بلانك في كتابه الرائع "سيرة ذاتية علمية، وأوراق أخرى" حينما يقول:

"أما الشيء الوحيد الذي قد ندّعي أنه ملكنا بضمانةٍ مطلقة، أعظم خير، والذي لا يمكن لأية قوة في العالم أن تأخذه منّا، وما يمكن أن يعطينا السعادة الدائمة أكثر من أي شيء آخر، هو نزاهة الروح، والذي يتجلى في أداء واجبنا بضمير".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.